ليسوا الإخوة كرامازوف في الرواية لكنهم يشحذون سكاكينهم منذ أربعين سنة. ليسوا أعداء على الورق ولكنهم أبدا لن يصيروا إخوة في الوطن.جرت مياه كثيرة تحت كل جسور العالم لكن العداء المستحكم بين فصائل
اليسار التونسي وبين تيار الإسلام السياسي في تونس لا يتجه إلا إلى المزيد من العداء. ولا يعجزه عن الحرب إلا أن أحدهم لم يطلق الرصاصة الأولى بعد. سيكون من الجدل السؤال عمن يناصب الآخر العداء فالعداوة لا تلين والبحث عن بدايتها لا تفسر استمرارها. إنهم هنا والآن ويقصون بعضهم بعضا.
الجامعة حاضنة الإقصاء السياسي.
كان يجب أن تكون الجامعة مهد الحوار المتقدم لكني عشت سنوات الثمانين في الجامعة وعاينت عن قرب العجز المطلق عن إدارة الحوار السياسي بين الفصائل السياسية اليسارية وطلبة الاتجاه الإسلامي وكان مجزرة منوبة 1982 إحدى أبرز محطات الاستئصال السياسي التي انتهت لصالح الطلبة الإسلاميين وتلاشي قبضة اليسار الطلابي على مجريات الحياة السياسية بالجماعة لكن ذلك لم يؤدِّ إلى استنتاج ضروري: أن الإقصاء لا ينتج إلا الإقصاء. ودرس آخر كان يجب أن يبدأ وقتها لكنه يتأخر بعد.هو أن المستفيد الوحيد من عراك الطلبة كان الحزب الحاكم وأجهزة القمع التي لم تتوان في بث الفرقة تمهيدا لزرع طلبتها بالجامعة.
طلبة اليسار الذين تدربوا على الإقصاء في الجامعة امسكوا بمقاليد السلطة عبر فلسفة التغيير من الداخل (الانتريزم) ومارسوا شهوتهم في أقبية وزارة الداخلية على الإسلاميين طيلة حكم بن علي لكنهم لم يقضوا عليهم. نفس الإسلاميين أطول
18 أكتوبر فسحة غير إقصائية
التحالف السياسي الذي اجتمع في بيان 18 أكتوبر خلق إمكانية للتعايش وقد استمعت بنفسي إلى حمة الهمامي في مركز التميمي للأبحاث يتحدث عن صياغة الورقات السياسية التي تمخضت عن ذلك الملتقى فقال أن الموضوع الخلافي الأهم الذي كان يشكل خشية لدى اليسار وهو موضوع المرأة قد صاغه على لعريض القيادي النهضاوي بقلمه بما جعل الخلاف ينكشف عن قدرة كبيرة على الاتفاق. لكن الضغط اليساري على حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي وقتها أدى إلى تفكيك ذلك الزخم السياسي وأعاد إنتاج القطيعة بين التيارين فعاد اليسار إقصائيا بينما كان الإسلامي لا يزال يعاني المطاردة و المحق الوجودي.
انتظر كثيرون أن تغير الثورة طبيعة العلاقات السياسية وتدخل معارضي النظام السابق في تحالفات بناءة لإعادة بناء النظام السياسي على أسس مختلفة يكون للحوار بين الإسلام واليسارية فيها مكانة هامة غير أن مجريات الأحداث أعادت إنتاج الإقصاء المتبادل. فقد أفرزت انتخابات 23 أكتوبر 2011 خريطة حكم ليس لليسار فيها مكانة فكان أن عمل اليسار وخاصة بما يسيطر عليه من نقابات خطة إسقاط الإسلاميين وتم له ذلك مؤقتا. بل ذهبت القيادات اليسارية إلى بناء تحالفات مع النظام القديم فمكنته من التنفس وتملك جزء كبير من الشارع في أفق انتخابات 2014.
تزكية النهضة المرشح اليساري الأبرز للانتخابات الرئاسية 2014
في ما يشبه بحثا عن وفاق مستقبلي مدت النهضة يد العون إلى حمة الهمامي فزكته ليتقدم للانتخابات الرئاسية بعد أن عازته التزكية الشعبية.هذه الدفعة الودية أيقظت شياطين الإقصاء جميعها لدى الفصائل اليسارية وصار حمة مرة أخرى عميلا أو تابعا للنهضة لتكسر به جبهة اليسار. لقد كانت حركة بسيطة لكنها كشفت أن الماء راكد في الجهة الأخرى وأن احتمال تفكيك قنبلة الإقصاء لدى اليسار أبعد من القمر عن الصاعد إليها حبوا وفيما يسجل الإسلاميون قدرة على التعاطي السياسي السلمي والدخول في التنافس الديمقراطي يصر اليسار الاستئصالي على مواصلة خيالاته الحميمة تونس بدون إسلاميين والى الأبد.بما يعيد السؤال أين مواضع الخلاف ؟
خلاف قديم غير منتج
الخطاب المعلن في البرامج لا يكشف خلافا جوهريا فقد ابتعد اليسار في خطابه عن مقولة الدين أفيون الشعوب وابتعد الإسلامي عن التكفير وزعم تملك الواسطة مع الله وكلاهما لا يعلن دولة اجتماعية تكسر سلطة رأس المال وتفك البلد من التبعية. فماذا بقي من موانع ليتجه الجميع إلى تقريب الشقة ومناقشة البرامج التي قامت من أجلها الثورة والنظر في طرائق تحقيقها وخدمة الشعب الذي أنجز الثورة دون العود إلى هؤلاء الاقصائيين في الطرفين؟
الاكتفاء بظاهر اللفظ لا يساعد على فهم عمق الخلاف إذن هناك خلاف كامن يتبرأ الجميع من إعلانه وتحمل كلفته الانتخابية. لقد وجد اليسار في ملفي الاغتيال ذريعة لمواصلة اتهام الطرف الإسلامي فبين الطرفين صار هناك دم يطلب الانتقام لكن حجية الاغتيال لم تثبت على الطرف الإسلامي داخليا وخارجيا ويبدو أن الملف سيغلق دون نتيجة تشفي الغليل.
الخلاف في ما يبدو لي قائم على صورة بناها الطرفان عن بعضهما منذ النشأة الأولى وساهم غياب الحوار في ترسيخها. الطرفان يعتقدان إنهما يؤسسان مشروعين مختلفين. واحد علماني حداثي والآخر إسلامي أصولي. أي أن الخلاف منغرس في إيديولوجيا سبعينية طورت أفكار القطيعة مع الماضي العربي الإسلامي عند اليسار والحداثيين وطورت فكر القطيعة مع الغرب عند الإسلاميين. إنها قطيعة تعيش من خطاب تَوَهَّم أن التحديث يتم بالقطع الثوري مع الماضي والتأصيل يتم بالقطع مع الغرب ومنتجاته بما فيها الفكرة اليسارية بموقفها خاصة من الدين ومن التدين. هي إيديولوجيا سليلة فكر النهضة الذي نشأ داخل مشروع التحديث الأول للقرن التاسع عشر واستمر يغذي الحيرة بين ذوبان في الغرب فكرا وتقنية أو التحايل التقني عليه بأخذ علومه وترك فكره كما لو أنهما منتجان مفصلان.
هنا يبدو لي اليسار قد تجمد في طرح تجاوزته الأحداث. ويصر على رفض التعاطي مع الواقع المتحرك فالمعسكر الاشتراكي انتهى وعصر الليبرالية تمدد حتى زعم نهاية التاريخ و
الديمقراطية الليبرالية المعادية للعنف الثوري تقود العالم والتعاطي معها صار حكم ضرورة لا ترفا فكريا. ولكي لا تفهم هذه دعوة للاستسلام أو التسليم بل نرى أن مداخل الثورات تتعدد ويمكن التعاطي مع الزمن الفكري بشكل مختلف فما قد ينجز بالاتفاق قد يدفع إلى تغيير المسارات الاجتماعية للشعوب.
هكذا وصلت الديمقراطيات الاجتماعية في الغرب إلى تجاوز فحش الرأسمالية وانغلاق الاشتراكيات الشرقية وقد أوصلت شعوبها بسلام إلى بناء جنان اجتماعية لم يسمح بها النظام الاشتراكي في أوج قوته وحلت في نفس الوقت مشكلة العلاقة مع الدين بصفته مكون هوية لا عائق تنمية وتفكير وتفلسف. في هذه المرحلة التي يزكي فيها الإسلامي خصمه اليساري لمنافسة انتخابية ليبرالية يبدو لي أن الإسلامي يربح مسافة سبق في هذا الاتجاه ويخرج من انغلاق أصولي طبع تفكيره لنصف القرن العشرين الثاني على الأقل وإن كان لا يزال منغرسا عند بعض التيارات الأصولية. انه يحرّض على التعايش داخل الاختلاف و ينهي الإقصاء و لهذا ثمن انتخابي محلي وثمن اعتراف خارجي طالما حرم منه.
ربما كان على دستويفسكي أن يعيد ترتيب حكاية الإخوة الألداء. فهذه مرحلة تحولات كبرى . تستحق رواية عظيمة.