أسدل الستار أمس السبت 27 من سبتمبر 2014 على فصل جديد من فصول المحاكمة الشهيرة التي اصطلح على تسميتها "
محاكمة القرن" والتي يحاكم فيها أحد رموز الديكتاتورية والاستبداد في العصر الحديث؛ الرئيس المخلوع بفعل ثورة
المصريين في 25 يناير 2011.
المتابع لخط سير المحاكمة يلحظ ارتباطها بأحداث الثورة المصرية صعوداً وهبوطاً، للدرجة التي أعتبرها أصبحت ترمومتر لحالة الصراع بين الثورة والثورة المضادة في مصر، فلا يمكن اعتبارها مجرد محاكمة عادية مجردة لمجموعة من المتهمين بقضايا قتل عابرة، لكن حقيقة الأمر أن محاكمة
مبارك وبعض رموز نظامه في قضايا قتل الثوار لها دلالاتها وتعكس هذه الحالة من الصراع بين الثورة والنظام القديم في مصر.
بدأت إجراءات محاكمة الديكتاتور المخلوع في مدينة شرم الشيخ في 12 أبريل 2011, وظهر للمرة الأولى في قفص الاتهام ممداً على سريره الطبي المتحرك في 3 أغسطس 2011 نافياً كل التهم التي وجهت إليه ونافياً مسؤوليته عن قتل المتظاهرين إبان الثورة.
استغرقت محاكمة الديكتاتور المخلوع 45 جلسة وامتدت حتى 22 فبراير2012، ونطقت المحكمة بالحكم على مبارك بالسجن مدى الحياة في جلسة 2 يونيو 2012.. كان ذلك والثورة والحراك الثوري في أوجهما، وقبيل أيام من الإعلان الرسمي عن فوز الدكتور محمد مرسي بأول انتخابات رئاسية ديموقراطية تجرى في مصر في 24 يوليو 2012 والتي أعتبرها في ذلك الوقت بمنزلة نجاح للثورة ولمرشح من أحد التيارات المشاركة فيها أمام ممثل النظام القديم والمدعوم منه الفريق أحمد شفيق، وكذلك أعتبر قرار السجن مدى الحياة على الديكتاتور أحد نجاحات الثورة و أحد علامات صحتها وقوتها واستعصائها على منظومة النظام القديم.
ثم أصدرت محكمة النقض حكمها في 13 يناير 2013, قبيل الانقلاب العسكري بأقل من ستة أشهر، بإلغاء كل الأحكام الصادرة بإدانة مبارك وجميع المتهمين معه وإعادة محاكمة جميع المتهمين، الأمر الذي جعل كثيرين ينظرون بريبة إلى ما يتم من إجراءات للمحاكمة.. وإن كان البعض قد بررهذا بأنه إجراء طبيعي من إجراءات التقاضي، لكن بالتأكيد أن كل القوة الحية التي شاركت والمنتمية لثورة الخامس والعشرين من يناير استشعرت القلق العميق من أن يكون هذا الحكم بمنزلة فتح الباب للتبرئة النهائية لمبارك ورموز نظامه، وليس هنا المهم هو شخوص المتهمين، بل ما تحمله هذه التبرئة المتوقعة من دلالات على ترمومتر الثورة -
الثورة المضادة، وأن ثمة خطراً محدقا بالثورة وأن النظام القديم يلملم نفسه وأركانه وأدواته للانقضاض عليها.
وهو ما كان بالفعل، ففي خلال شهور قليلة بعد الحكم بإلغاء الأحكام الصادرة ضد الديكتاتور وبعض رموز نظامه في قضايا قتل الثوار، وقع الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو وحدث ما هو معلوم تفاصيله وأحداثه من مجازر وانتهاكات للحقوق والحريات وتجريم لثورة يناير وشيطنة رموزها وتشويه المشاركين والأشخاص الفاعلين فيها.
جدير بالذكرهنا في سياق المحاكمات القضائية، أن نفس منظومة القضاء التي استمرت لأكثر من عامين في محاكمة مبارك وبعض رموز نظامه في قضايا قتل الثوار وانتهت بإلغاء كل الأحكام الصادرة ضده وإخلاء سبيله، كما أفرجت عن العديد من رموز نظامه في قضايا فساد كبرى أخرى، هي نفسها المنظومة التي أصدرت أحكام إعدام جماعية على مئات المعارضين للنظام القديم، في محاكمات لم تستغرق سوى دقائق ومن دون مرافعات، كما أصدرت الأحكام بالسجن المؤبد وخمسة عشر عاما وسبعة أعوام على كل من انتمى للثورة وارتفع صوته معارضاً للانقلاب العسكري وسياساته القمعية . وهي أيضاً التي تجدد الحبس الاحتياطي لأكثر من عام إلى الآن لعشرات الآلاف من المعتقلين المنتمين للثورة من دون محاكمة وعلى خلفية قضايا سياسية بالأساس.
وفي الثالث عشر من أغسطس 2014 جاءت جلسة أخرى ضمن الفصل الثاني لمسيرة محاكمة المخلوع، وبعد الانقلاب العسكري الذي أعاد النظام القديم في أقبح صوره بل قل بأكثر دموية وفاشية لينتقم من الثورة وقواها وينقض على الأهداف التي قامت من أجلها.. جاءت هذه الجلسة لنرى فيها المخلوع مبارك يقدم خطبة رئاسية نقلتها بشكل حصري فضائية "صدي البلد" المملوكة لأحد قيادات حزبه الوطني المنحل البارزين ورجال الأعمال الفاسدين الملتصقين بنظامه وهو محمد أبوالعينين. ولم يكن ينقص تلك الكلمة إلا أن يتعالى أحد أصوات الحضور في قاعة المحكمة قائلاً «المنحة يا ريس» على غرار ما كان يحدث في خطب المخلوع بمناسبة عيد العمال. هذه الخطبة العصماء، من قاعة المحكمة، ذكّرت الكثيرين بخطاباته أثناء ثورة يناير، كما كانت برأيي بمنزلة خطاب تنصيب جديد بعد خطاب تنصيب قائد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو، أعلن فيها مبارك عن نفسه رئيساً شرفياً للثورة المضادة عندما أكد أن خطته قد نجحت حين أعطى أوامره بتسليم سلطته إلى المجلس العسكري الذي «نجح في مهمته» على حد وصفه، في إشارة إلى الانقلاب العسكري.
مما سبق، يتضح لنا كيف بدأت محاكمة الرئيس المخلوع وهو مجرم مدان خلف القفص، وكيف انتهت وهو رئيس شرفي للثورة المضادة مخلى السبيل ويلقي خطابات رئاسية، بتغطية حصرية لأجهزة إعلام نظامه.
وتاتي جلسة محاكمة المخلوع الأخيرة أمس السبت والتي لا تخلو من الدلالات المهمة. فمن الناحية الإجرائية خالفت هذهالجلسة كل القواعد المستقر عليها للمحاكمات القضائية وضربت بها عرض الحائط حتى باتت أقرب لبرنامج «توك شو» لفضائية رجل الحزب الوطني ورجل أعمال نظام مبارك محمد أبو العينين «صدى البلد»، وهو ما يتناسب مع وضعية الصراع الحالي بمقياس ترمومتر الثورة - الثورة المضادة.. أما من ناحية المضمون وقياساً على ما تم في مسيرة المحاكمات منذ بداية الثورة وحتى الآن وقياساً على ترمومتر الثورة - الثورة المضادة، فإن تأجيل النطق بالحكم في القضية إلى نوفمبر المقبل لا يعدو إلا أن يكون مناورة جديدة قد يكون المقصود منها إتمام «تفصيل» برلمان جديد معبرعن الثورة المضادة ليكون حائط صد ثانياً بخلاف الرئاسة المغتصبة أمام الغضب الشعبي العارم المتوقع في حال التبرئة المتوقعة للديكتاتور المخلوع.
أما الدلالة الإيجابية المهمة، فهي أنه بالرغم من أن سلطة الانقلاب تمتلك جميع مؤسسات الدولة، بدءاً من المؤسسة العسكرية والشرطة والقضاء والإعلام وتمارس كل أنواع القمع الممكنة لإخماد الحراك الثوري، إلا أنها مازالت مرتعشة وتخشى أن تصدر الحكم بالبراءة الآن، وهو ما يعني أن الحراك الشعبي الثوري مازال حياً ومصدر إزعاج وتهديد حقيقياً لمنظومة الدولة القديمة والثورة المضادة، وهو ما يدعو قوى الثورة إلى لملمة الصفوف ومزيد من الالتحام بالجماهير لاستعادة مزيد من الزخم الثوري الذي مازال يمثل قوة لا يستهان بها بعد عام على الانقلاب، حتى يتم إسقاطه وتستعاد الثورة ومكتسباتها.
وتبقى إشارة خطيرة ومريبة ساقها قاضي المحكمة حين استدعى أثناء حديثه، ومن دون مناسبة منطقية، مسألة تطبيق المادة 14 من قانون الإجراءات الجنائية - التي تنص على انقضاء الدعوى الجنائية بوفاة المتهم، حيث أكد القاضي رئيس المحكمة أنه لا ينتظر بالتأجيل تطبيق المادة 14، وأنه إذا توفي أحد المتهمين، خلال فترة حجز القضية للحكم وأصبح لزاماً على المحكمة الحكم بسقوط الدعوى الجنائية، فإنه سيكتب حيثيات إدانة هذا المتهم المتوفى كاملة حال إدانة المحكمة له، غير أنه سيقضي بانقضاء الدعوى التزاماً بما نص عليه القانون، ليفتح باباً واسعاً من التكهنات: هل مد القاضي أجل الحكم.. لينقضي أجل أحد المتهمين؟!!