في الموروث المستطرف عندنا أن أخوين لدودين خرج عليهما جني المصباح ووعدهما خيرا كثيرا لكنه أضاف شرطا لم يرد في ألف ليلة؛ وهو أنه سيعطي للثاني ضعف ما سيعطي الأوَّلَ. فتريث المتمني إذ رأى أخاه يفوقه ثروة... فطلب من الجني بكل هدوء أن يفقأ له عينا. ليضمن عمى أخيه من بعده. أتذكر الطرفة في أجواء التنافس الانتخابي في تونس القائم أولا على إخسار الآخر قبل التفكير في الانتصار.
وقد تبين لي ذلك في
خطاب المثقفين الذين أعلنوا ولاءهم الحزبي للنداء إذ استعادوا بكل جمود فكري المواضع القديمة ليؤثثوا بها برنامجهم الانتخابي. فهناك موضوع لم يفلحوا في تدبر غيره في هذه المرحلة التي تقتضي من الجميع الذهاب إلى الأمام لا العودة إلى الخلف وهو موضوع المرأة وحريتها ووجودها الاجتماعي.
تخويف المرأة من الإسلاميين
موضوع المرأة وتهديد الإسلاميين لها بمشروع الحجاب والحجب عن الحياة العامة كان الموضوع البوابة التي يدخل منها خطاب
الحداثة على خطاب الإسلاميين ليربكه منذ سنوات طويلة. ثم ينقذ خطاب الحداثة نفسه بإسناد ذاتي فيجعل من نفسه حاضنة الحداثة والتقدم. لكن تجربة التعايش وضعت الإسلاميين تحت المجهر وتحت سياط النقد العقلاني وغير العقلاني وبدأت الاستجابات تظهر. كانت أجلى هذه الاستجابات في النقاش العميق حول الدستور وخاصة حول مسألة دين الدولة ومسألة اعتماد الشريعة مصدرا للتشريع والمسائل الحساسة المتعلقة بحرية المعتقد واللباس وغيرها من الحريات التي كانوا متهمين بجهلها ومعاداتها وهي رصيد التقدميين والحداثيين وحدهم.
استجاب الإسلاميون (حزب النهضة الأثقل وزنا والأوسع تمثيلا) لمجريات النقاش وقبلوا الكثير مما كان عندهم محرما أو ثوابت لا تمس وأثبتوا حتى اللحظة وجها منفتحا وقابلا للتعامل مع الآخر طبقا لقواعد الديمقراطية لكن الذين فقدوا قدرتهم على إرباكهم وحشرهم في نفس الزاوية الرجعية اتهموهم بالمناورة والتربص بالديمقراطية رافضين أن يكون انفتاحهم حقيقيا في عملية مصادرة للنوايا تعاكسها الوقائع.
تأقلم الإسلاميين
لقد تجاوز النقاش أثناء صياغة الدستور عوائق كثيرة ونجا الإسلاميون من فخاخ سياسية مبثوثة في طريق المشاركة على قواعد المشترك الوطني. وقدموا للعالم الخارجي صورة حزب منفتح كان لها تأثير مباشر على قبولهم في دوائر القرار الغربي خاصة الفرنسي منه. فرنسا التي وقفت دوما وبقوة مع كل عمليات الاستئصال التي تعرض لها الإسلاميون منذ ظهورهم واعتبرتهم تهديدا مباشرا على مشروعها الحداثي المبثوث في المدرسة وفي كواليس الثقافة التونسية. وفي الوقت الذي كانت صورتهم في الخارج تعدل وتقبل ويتم التعامل معها بندٍّية جاء الداخل الوطني الحداثي في أول الحملة الانتخابية لسنة 2014 ليعيد وضع نفس الملف على طاولة الدعاية السياسية. مقدما نفسه بلسان المثقفين المساندين لحزب النداء بأنه الحزب المؤتمن على الحداثة وعلى التقدم الاجتماعي الذي اصطنع كنمط تونسي خاص.
لقد انكسرت صورة الحزب الإسلامي المتخلف بل حل محلها صورة حزب ليبرالي يتعاطى بذكاء مع الواقع وبالتالي فإن محاربته على أساس أنه الممثل الحصري للرجعية لم تعد في تقديري مجدية بل تدل على عجز وقصور فكري لدى من يستعيد هذا الملف ويستعمله كخطاب انتخابي. والسؤال الحارق الآن لماذا لم يبتكر حزب النداء (الحداثة) ومثقفيه مشروعا مختلفا وخطابا جديدا للدخول في حملة انتخابية على قاعدة المشترك الوطني الذي صار فيه الإسلامي جزءا من هذا النمط التونسي وليس مشروعا متخلفا.
ورقة المرأة الانتخابية ورقة خرجت من اللعب
كما في لعبة الرامي؛ ورقة المرأة لم تعد تجد مكانها في الكف. لقد رميت في الكدس. واستعادتها الآن للتخويف لم تعد تعدل الكف. لقد كانت هناك مخاوف حقيقة من تركيز النهضويين على العمل الأخلاقي والتربوي وإعلائهم لمسألة العفاف وصيانة الأسرة بتحجيب المرأة وإعادتها إلى البيت وربما تمهيدا لحرمانها من تعليم ضروري وإلزامها البيت وتربية الولد ضمن تصور متخلف للأسرة. لقد تابع الناس أداء برلمانيات النهضة فظهرت المرأة النهضوية امرأة تونسية في كل حالاتها.. حرَّض الحداثيون على خطاب حجب المرأة وتحجيبها بالقوة سيظهر من تحت نفاق الإسلاميين وسيطرح حلول التشغيل بعزل المرأة وفرض التعدد ولكن ذلك لم يحصل (يوجد حزيب يعلن مرجعية إسلامية ويطرح ذلك كبرنامج انتخابي لكنه يحظى بأكبر قدر من السخرية من قبل النهضويين أنفسهم). المرأة النهضوية بعد ثلاث سنوات موجودة في الشارع وفي السوق وفي المهنة ولم تعد ملحقا. وفي كل الحالات وبمقارنة وضعها في الأحزاب المنافسة التي تتبنى قضايا المرأة تخرج النهضة رابحة نسبيا. بل يمكن للنهضوين أن يزايدوا ببعض المكاسب. (سواء في القيادات الداخلية أو في الترشيح) بحيث لم يعد هذا سبب للتخويف أو ورقة مزايدة انتخابية حداثية ضد تيار ظلامي معاد للمرأة. لو دخلت العلوم الاجتماعية للبيت التونسي (علم اجتماع الأسرة) وهو أمر لم يحدث بعد ربما كشفت لنا حياة بيت الإسلامي وبيت الحداثي من الداخل وأمكن لنا المقارنة بوسائل القياس الاجتماعي لنبني صورة حقيقة لا تزال منقوصة عن كل البيت التونسي.
الملفات الحقيقة مؤجلة
استعادة الحداثيين في النداء ولدى اليسار عامة لهذا الملف وتخويف النساء به دفاعا عن النمط ورقة انتخابية محروقة. اعتقد أن المرأة التونسية ستنتخب على أساس برنامج زيادة دخل أسرتها أما حجابها فقد صار خيارا شخصيا لن تلبسه غصبا ولن تنزعه غصبا.
الآن وهنا المرأة التونسية المهددة بالرجعية لم تعد تصدق من يخوفها بالإسلاميين، ولذلك فهي تنحاز إلى قضياها الاجتماعية العامة. مثل تعليم أولادها و زيادة دخل أسرتها وضمان رفاهيتها. هذه هي القضاياها التي تشغلها يوميا. وهنا لم يقدم الإسلامي ولا الحداثي الحلول التي تنتظرها المرأة كما ينتظرها الرجل. وطبعا هؤلاء جميعهم لا يهتمون بقضايا أكثر حيوية مثل حقوق المرأة الريفية العاملة في الفلاحة والحظائر. وهذا صنف من النساء يقع خارج خطاب جميع الأحزاب والتيارات. ولا يشغله خطاب التحجيب ولا الكشف. إنهن التحدي الحقيقي حيث ملف التنمية الاجتماعية المرعب.
إن الملفات الحارقة تقتضي مراجعة جذرية للخطاب السياسي وآلياته وتقتضي خاصة الانكباب على الملفات الحقيقة التي ينتظر الشارع طرحها والشروع في معالجتها بما يحقق الأهداف الثورية وهنا أعتقد أن الاختلافات بين الإسلاميين والحداثيين تختفي. فهم جميعا ليبراليون مستعدون لإعادة تبييض منوال تنمية تابع سار عليه سلفهم كأن لم تقم في أذهانهم ثورة اجتماعية. لقد أنقذ الإسلاميون وجودهم الجسدي ونجوا من فخاخ الخطاب الحداثي بتبني كثير منه (صدقا أو مناورة) بما أفقد خصمهم أوراق اللعب الخطيرة لكن الورقة الأشد إحراجا يتجنبها الجميع. بما يبقي النقاش في دائرة التكرار والبحث عن طمس عين الشقيق وحرمان النفس من
التطور. في أفق انتخابات 2014 مازال الملف الاجتماعي يبحث عمن يضعه على الطاولة.