يواجه
اليمن تحديات عدة خلال عملية إصلاح القطاع الأمني التي يجري الترتيب لها والبدء بها في هذه الأيام. ومن أهم تلك التحديات، تفكيك سيطرة مراكز القوى والنفوذ
العسكرية والقبلية، وتعطيل تلك السيطرة في جانب اتخاذ القرار في هذا القطاع، الذي سبب عجزا كبيرا في أداء الوحدات الشرطية خلال السنوات الماضية. وهي إشكالية حقيقية تقف أمام السلطات اليمنية كأبرز العقبات الماثلة على طريق إبعاد القوات الأمنية من خارطة تحكم تلك القوى.
عند الوقوف على بعض مظاهر التدهور الأمني في البلاد، تبرز حوادث الاغتيالات كأقوى التحديات الأمنية التي دفعت السلطات الانتقالية في اليمن إلى الاقتناع التام بضرورة إعادة ترتيب البيت اليمني أمنياً، بعدما كشف ملف الاغتيالات تلك مدى الوهن الذي يعيشه قطاع الأمن في البلاد، إذ إنه منذ مطلع عام 2012م حتى آذار/ مارس 2013م، اغتيل أكثر من 120 ضابطا، منهم ثمانون ضابطا في جهاز الأمن السياسي (المخابرات) وفي أجهزة أمنية أخرى، وعادة ما تلقي السلطات اليمنية باللائمة على تنظيم القاعدة في الوقوف وراء تلك الأعمال.
في 21 شباط / فبراير 2013، أصدر الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي قرارا هاما بتوحيد القوات الأمنية، وإعادة هيكلتها على أسس علمية، وتكمن أهمية ذلك القرار في كونه خطوة مهمة على طريق إصلاح القطاع الأمني، واستعادة زمام السيطرة من أيدي القوى التي تضرب بجذورها في هذا الحقل، وتسعى بكل ما لديها من قوة لعرقلة أي توجهات حكومية تستهدف تطوير الأداء الأمني المتراجع أساسا، والذي خلق حالة من عدم الثقة لدى المواطن اليمني حول قدرة الأجهزة الأمنية على مواجهة الأعمال المخلة بالأمن وتحقيق الاستقرار الأمني. على أنه لا يجب إغفال دور القرار
إياه في توزيع وتنسيق الجهود الشرطية، بحيث تتبع كل المهام مستويات إدارية معينة، بالإضافة إلى استحداث وحدات ومناصب جديدة في الهيكل الجديد لوزارة الداخلية، أهمها منصب المفتش العام، الذي منحه صلاحيات مكافحة الفساد وتجاوزات الشرطة، بهدف الدفع بعملية إصلاح الأجهزة الأمنية وتحقيق الاستقرار في البلاد.
إن ما جرى تنفيذه - حتى الآن- من خطة إصلاح القطاع الأمني وإعادة هيكلته، يكتسب أهمية كبيرة، حيث يساهم ذلك في بناء الثقة بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة، لكون عملية إصلاح القطاع الأمني في اليمن من أهم المقررات التي خرج بها مؤتمر الحوار الوطني، إذ قرر المؤتمر منع منتسبي القوات الأمنية والعسكرية أيضا من ممارسة أي أدوار سياسية، وكذا حظر مشاركتها في الانتخابات والاستفتاءات المختلفة، سواء بالاقتراع أم بالترشح أم بالقيام بأي حملات دعائية انتخابية لمصلحة أيٌ مرشح، وذلك لحمايتها من أي اختراق سياسي. وهي خطوة مهمة على طريق الإصلاح العسكري والأمني بعد ما شهدت العقود الماضية حضورا سياسيا لافتا لمنتسبي الجيش والأمن بحيث مثّل ذلك الحضور إحدى الركائز التي اتكأ عليها النظام السابق في إحراز تقدمه على خصومه السياسيين في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.
لقد ظهرت ملامح عملية الإصلاح الأمني من خلال الشروع في انتهاج مبدأ الشفافية مع وسائل الإعلام، بهدف إتاحة الفرصة لها ولكل منظمات المجتمع المدني المهتمة بهذا الجانب، بحيث تكون أداة رقابة على أداء رجال الشرطة وسلوكياتهم الوظيفية، وقد تجلّى ذلك من خلال عقد المؤتمرات الصحافية التي رمت إلى إزالة الغموض الذي كان يكتنف العديد من الملفات الأمنية الحساسة.
ومن أبرز ملامح إصلاح قطاع الأمن أيضا، اعتماد معايير الكفاءة والخبرة لشاغلي المناصب الأمنية، حيث تم طرح المنصب الأمني للتنافس، وإخضاع الراغبين لتولي تلك المناصب لاختبارات محددة تجرى بنظر قيادة وزارة الداخلية اليمنية للضباط المتقدمين لشغل تلك المناصب، إلا أنه لم يستمر ذلك النهج، بل اعتمدت تعيينات أخرى بناء على حسابات تقليدية كانت سائدة في عهد النظام السابق. وقد تجلّى ذلك من خلال تعيين قادة فروع قوات الأمن الخاصة في بعض المحافظات، على أسس لم تستند إلى معايير الكفاءة أو معايير شغل المناصب الأمنية وفق التوصيف الوظيفي لتلك المناصب ولشاغليها، بل كانت وفقا لمبادئ النفوذ والولاء القبلي والمحاصصة، الأمر الذي يشكل تراجعا عن خيارات الإصلاح الأمني المنشود، وهو ما يقوض أي بوادر ترمي إلى تحقيق الإصلاح الأمني الشامل.
وتسعى السلطات الأمنية اليمنية إلى تغيير سياستها الأمنية المتبعة، من خلال الانتقال للعمل في الميدان، وقد أظهرت الكثير من الوقائع نجاعة هذا الإجراء الجديد، الذي أنعش الأداء الأمني بعد طول خمول وتردّ، والدليل على ذلك التحركات والزيارات الميدانية المفاجئة لوزير الداخلية اليمني اللواء عبده حسين الترب في العاصمة وفي محافظات أخرى، ووقوفه على أداء الوحدات الشرطية وما تقدمه من خدمات للجمهور، ووقوفه كذلك على مدى الانضباط والجاهزية في الوحدات الأمنية التي شملتها تلك الزيارات، وتقديمه المكافآت المالية لمنتسبي تلك الوحدات خاصة تلك التي تؤدي مهامها على الصفة المطلوبة. وهو توجه يشي بصدق إرادة السلطات الأمنية في تفعيل أداء أجهزتها وتجاوز العثرات التي تعاني منها.
أما بالنسبة للعلاقة بين أجهزة الاستخبارات اليمنية مع الوحدات الأمنية المختلفة، فقد كشفت الحالة الأمنية خلال العامين المنصرمين عن جمود مذهل في دور تلك الأجهزة، كما برهنت عليه الكثير من الأحداث والوقائع الإرهابية، وقد كان له انعكاساته الخطرة التي شجعت على توالي ونجاح الكثير من الحوادث التي نفذتها الجماعات المسلحة ضد المؤسسات الحكومة والمقار الأمنية والعسكرية، التي أسفرت في مجملها عن سقوط مئات القتلى والجرحى في صفوف قوات الجيش وقوات الشرطة.
ويرى الخبير في الشؤون الأمنية والعسكرية علي الذهب في حديث لــ"عربي 21" أنّ "أمام السلطات الانتقالية تحديات عديدة وقوية ستواجه جهود عملية إصلاح القطاع الأمني في اليمن، أقواها الفساد المالي الذي يعد أحد أهم أسبابه التضخم الكاذب في حجم الموارد البشرية المقيدة في قوائم المرتبات، في حين أن حجم القوة العاملة في الواقع لا يبلغ نصف القوى المقيدة في تلك القوائم، مشيرا إلى أن "لهذا التضخم انعكاسات كثيرة مالية وإدارية ملموسة تضرب أي جهد لإصلاح مسار هذه المؤسسة وتطوير أدائها، فضلا عن الانعكاسات السلبية على الروح المعنوية لأفراد قوات الشرطة وعلى كفايتها واندفاعها لتأدية مهامها الأمنية بفاعلية ورضى وظيفي".
ومن المتوقع، بحسب الخبير الذهب أن "تُقابل مراكز القوى الصغيرة من الضباط (قادة الكتائب والسرايا) الذين لم تشملهم خطة الهيكلة حتى الآن، وكذا الرموز التقليدية المستفيدة من مرتبات الجنود الوهميين ومن اقتصاد الحرب الذي دأبت عليه هذه النخب خلال العقود الثلاثة الماضية بفعل إجراءات مكافحة الفساد في القوات الأمنية، مقاومة شديدة، وهذا الأمر يمثل تحديا آخر من شأنه عرقلة جهود الإصلاح الأمني المنشود" على حد وصفه.
وشدد على "ضرورة ضبط وتنظيم الإيرادات والمصروفات المالية، لتتم وفقاً للنظام والقانون والميزانية المحددة وإجراءاتها الدقيقة، التي من شأنها أن يتم فصل إدارة الأموال عن قيادات القوات الأمنية والشرطية، والحد من الإنفاق العبثي الذي يتم تحت مزاعم ومبررات غير مقررة".
وأكد المقدم محي الدين عباس، وهو ضابط في الشرطة اليمنية، أن" التحديات التي تواجه مرحلة إصلاح قطاع الأمن في اليمن تبدو معقدة، وتحتاج لسنوات كثيرة لتلافيها، نظرا لبقاء العناصر الفاسدة في هذا القطاع وتمتعها بقدر من التأثير والاستجابة لحساباتها الخاصة".
وأضاف لــ"عربي 21" أن "استمرار التدخلات السياسية في القرار الأمني يعد إشكالية حقيقية وعميقة، من شأنها تحويل المنظومة الأمنية إلى ساحة أخرى للصراع بين تلك القوى".
وهنالك تحديات أخرى - وفقا لعباس - تكمن في قدرة السلطات الأمنية على تطوير قدرات قواتها لمواكبة استحقاقات مرحلة التحول السياسي، لكون قطاع الأمن لا يزال يعاني من الأمية في صفوف منتسبيه، ما يؤثر على تعاملهم وسلوكهم مع الظواهر الأمنية".
وأشار إلى أن" هناك تحديات أخرى تتمثل بعملية إقصاء ضباط في
السلك الأمني يتمتعون بقدرات وكفاءات عالية، إذ يجري إبعادهم عن أماكن القيادة والسيطرة تحت مبررات واهية، تنطلق من تأثير القبيلة التي ينتمي إليها سواهم، ما يعني أننا أمام حالة تعمق الفوضى على حساب الالتزام بالأنظمة والقوانين اليمنية" على حد قوله.
وتبقى اليمن في وضع خطير دائم، مالم تكلّل جهود
إصلاح المنظومة الأمنية بنجاح، ولذلك فإن أي إخفاق في هذا الجانب لن تكون معه الفوضى وانهيار الدولة مجرد تكهنات، بل ستكون حالة طبيعية لذلك الفشل.