كتب جيمس زغبي: بعد أن تفجرت نيران التوترات الطائفية التي كادت تتميّز من الغيظ في العراق قبيل بضعة أسابيع، لم يدخر المنتقدون من اليمين أو اليسار جهداً في صب جام غضبهم على سياسات إدارة أوباما في بلاد الرافدين، بين منتقد لنهجها أو هاجٍ لغيابها.
وإدراكاً مني أن الوضع الراهن محفوف بالمخاطر، فإنني أقدر ذلك النقاش، وكم كنت أتمنى أن يحدث تبادل وجهات النظر شديدة التباين تلك قبل أحد عشر عاماً، فقد كان لها حينئذ أن تدفع إلى مزيد من الحذر، الذي كان ضرورياً. ولكن ما لا أقدره هو تلك الانتقادات الصادرة عن أشخاص اعتمدوا في حججهم على واقع مختلق ابتدعوه من بنات أفكارهم ليلائم أهدافهم.
وما أريد أن أناقشه بالتحديد هو تعليق كتبه «إليوت أبرامز»، مساعد الرئيس السابق بوش، الذي نشرته دورية «بوليتيكو» الأسبوع الماضي. والحقيقة أن الانتقاد شيء، وتحريف التاريخ شيء مختلف تماماً.. وهذا بالتحديد هو ما فعله مقال «أبرامز»، الذي جاء بعنوان: «الرجل الذي بثّ الشقاق في الشرق الأوسط». وقد بدأ تعليقه بزعم غريب أن «الشرق الأوسط الذي ورثه أوباما في عام 2009 كان يعمه السلام بشكل كبير». وأضاف أبرامز: «أُرسيت دعائم الاستقرار في العراق، وتم احتواء إيران، وكانت علاقات الولايات المتحدة بحلفائها الإقليميين طيبة جداً».
ويزعم «أبرامز» أن أوباما قوّض هذا الوضع الذي كان قاب قوسين أو أدنى من النموذجية بسبب فشل الرئيس الجديد وإخفاقه في فهم دور القوة الأميركية كعامل رئيس يمكن أن يعزز الاستقرار، إضافة إلى «الدفاع عن حلفائنا وأصدقائنا ومصالحنا».
بيد أن «أبرامز» باختلاق هذا التاريخ الوهمي إنما يتجاهل حقيقة أن المسرح الذي أعدته إدارته كان في الواقع مختلفاً عن ذلك الذي يتخيله. وفي عام 2009، كان السلام في العراق زائفاً، وأدت الحرب إلى تشتيت حياة الناس، كما فعلت بالنسيج الاجتماعي للبلاد. وقد أتت سنوات عجاف من التطهير العرقي والطائفي على أكثر من خُمس سكان العراق بين لاجئ في الخارج أو نازح في الداخل. وفرضت الولايات المتحدة نموذج محاصصة طائفية مشابهاً للنمط اللبناني على المشهد السياسي العراقي، ولكن العلاقات بين فئات المجتمع كانت أشد توتراً وانقساماً. وتمزقت أوصال العراق، بينما كانت واشنطن تلعب مذّاك دور الوكيل المسؤول عن التقسيم، وأضحت الآن وكأنها الطرف الذي يحاول عبثاً الحفاظ على وحدته. وأقول هنا لأبرامز: ربما أن العراق بدا هادئاً حينئذ ولكنه كان رماداً من تحته نار!
وإذا كان العراق انجرف إلى شفا الدمار الذي حدث في عهد بوش، فكذلك أيضاً وضع الولايات المتحدة؛ ذلك أنه بتوريط واشنطن بشكل أحادي الجانب في حربين فاشلتين كان هدفهما ترسيخ قوة أميركا وبسط هيمنتها، ارتدت أهداف إدارة بوش إلى نحرها، مقيدة القدرة العسكرية الأميركية على القيام بأهداف وتدخلات تطوعية. ولا تزال تكاليف الأرواح والأموال تحصى وتعد مع معاناة مئات الآلاف من قدامى العسكريين العائدين الذين يعانون إصابات بدنية ونفسية نتيجة الحرب. ولعلّ الفضيحة الأخيرة التي صدمت إدارة قدامى المحاربين بالكشف أننا نخسر يومياً أكثر من 20 شخصاً من قدامى المحاربين بسبب الانتحار، تعتبر هي الشهادة الأمثل على الأضرار التي وقعت.
وقد كان للحربين وسلوكنا خلالهما تأثير مدمر على مصداقيتنا وقيمنا وهيبتنا أمام دول العالم. وبعيداً عن «علاقتنا الطيبة» في كل مكان، تظهر استطلاعات الرأي أنه خلال عهد إدارة بوش، كانت المواقف تجاه الولايات المتحدة عند أدنى مستوياتها على امتداد التاريخ، وأن القادة الأجانب الذين اعتمدوا على المساندة الأميركية كانوا يخاطرون بشكل كبير في ضوء تزايد عداء شعوبهم لبوش والولايات المتحدة ذاتها.
وبدلاً من بسط الهيمنة الأميركية، أضعفتنا الحرب في العراق وأفغانستان، بينما عززت مواقف قوى إقليمية مثل إيران وتركيا، وقوّت شوكة روسيا والصين.
وبزعمه افتراء أن السلام كان يعمّ الشرق الأوسط في عام 2009، يتعمد «أبرامز» أيضاً تجاهل حرب ديسمبر 2008 يناير 2009 بين إسرائيل وغزة. وقد كان ذلك الصراع المدمر الذي زاد الترحيب بأوباما في البيت الأبيض. وأثناء عهد بوش، كان «أبرامز» مسؤولاً عن الحقيبة «الإسرائيليةـ الفلسطينية»، وقد أحدثت واشنطن فوضى بائسة على هذا الصعيد. وتجاهلت الإدارة تقرير «ميتشل» ودأبت على ازدراء الجهود التي بذلها مبعوثو السلام. وأصرت على إجراء الانتخابات التي دفعت بـ«حماس» إلى سدة الحكم، وبعد فوز الحركة، سعت إلى تدميرها. وعلاوة على ذلك، أيدت إدارة بوش أيضاً كل تحركات شارون، وساعدت ومكنت كافة السلوكيات الإسرائيلية الشريرة بداية من توسيع المستوطنات والانسحاب الأحادي من غزة، وصولاً إلى حصارها وحروب إسرائيل في لبنان وغزة عام 2006 و2008-2009.
وقد تركت حصيلة خسائر سياسات إدارة بوش خلال السنوات الثماني العجاف الولايات المتحدة عرضة لأقذع أنواع الانتقاد في العالم العربي. وهكذا كانت محاولة تضميد الجراح العميقة التي سببتها حشود بوش بالعلاقات الأميركية العربية والتي قادت أوباما إلى القاهرة في عام 2009. ويصف «أبرامز» مقاربة أوباما بـ«الأطلال»، ولكن مبادرة «البداية الجديدة» التي أطلقها الرئيس الأميركي ارتكزت على التفاهم المتبادل والمسؤولية المشتركة، والشراكة التي كانت بالفعل ملائمة لعلاج تلك الجراح.
ولو نظرنا إلى الأعوام الخمسة الماضية، فمن الممكن أن نلاحظ كيف ثبّط المحافظون من معنويات إدارة أوباما فيما يتعلق بسياق سياساتها تجاه الشرق الأوسط، وبينما كانت تحاول إجراء التغيير المنشود، فوتت فرصاً للإمساك بزمام القيادة وقللت من أهمية التشاور مع الأصدقاء والحلفاء في الداخل والخارج، وكثيراً ما بدت تائهة ومفتقرة إلى اتجاه واضح. وجلّ هذه الانتقادات عادلة ومنصفة وتستحق النقاش، ولكن ما فعله «أبرامز» جائر لا يأتيه الصواب من بين يديه ولا من خلفه.