يجلس الرجال الذين يرتدون القمصان البيضاء وربطات العنق في واشنطن ونظرائهم في إسرائيل حول الطاولات ويضعون خططاً لما بعد أن تنهي إسرائيل الهجوم البشع الذي تشنه على
غزة (إذا قامت بإنهائه). ومما قرأته، فإن خططهم إما غير حساسة إلى حد كبير أو واهمة تماماً، حيث تركز فقط على من يدير ماذا وكيف سيتم إدارته، متجاهلة الجراح التي أحدثتها هذه الحرب التي ستحدد الواقع لجيل أو أكثر. إن الخسارة والصدمة التي لحقت بملايين
الضحايا الفلسطينيين لا تؤخذ في الاعتبار أبداً في حسابات الإسرائيليين أو مساعديهم في واشنطن. بالنسبة لهم، كان الفلسطينيون دائماً مجرد بيادق على رقعة الشطرنج.وهنا يكمن أصل الصراع برمته. منذ البداية، لم ينظر البريطانيون ولا القادة الصهيونيون الأوائل إلى السكان العرب الأصليين على أنهم بشر كاملون. وعندما علم الأميركيون بالخطط البريطانية لتأمين الانتداب وتسليمه إلى الحركة الصهيونية لإقامة مستعمرة يهودية في فلسطين، أرسلوا فريقاً لاستطلاع الرأي العربي.
ووجدوا رفضاً عربياً شبه كامل لكل من الانتداب والمشروع الصهيوني. وعند سماع النتائج، نُقل عن اللورد البريطاني بلفور قوله: «في فلسطين، نحن لا نقترح أو نستشير رغبات السكان الحاليين في البلاد. الصهيونية، سواء كانت على حق أم على خطأ، جيدة أم سيئة، هي ذات أهمية أكبر بكثير من رغبات وأحكام الـ 700.000 عربي الذين يسكنون الآن تلك الأرض القديمة». وقد شارك مؤسسو الحركة الصهيونية هذا الشعور. لقد سعوا أولاً إلى الحصول على «أرض بلا شعب... من أجل شعب بلا أرض». عند العثور على سكان أصليين هناك، كتب «هرتزل» أنه سيتم استخدامهم لتطهير المنطقة من الحيوانات الخطرة، ثم يتم إجلاؤهم إلى أراضٍ أخرى. وكتب الصهاينة الأوائل أن الشعب اليهودي كان «أكثر اجتهاداً وأكثر قدرة من المواطن الأوروبي العادي، ناهيك عن التحدث إطلاقاً عن الآسيويين والأفارقة الخاملين». لقد اعتقدوا أن مستعمرتهم ستكون «متراساً لأوروبا ضد آسيا، ومعقلاً للحضارة في مواجهة الهمجية». ووجدت هذه العقلية العنصرية العميقة أفضل تعبير لها
في فيلم «إكسدس» (أو الخروج) عام 1960 الذي نقل قصة «رعاة البقر والهنود» الأميركيين إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني - حيث صور الإسرائيليين كرواد يسعون إلى الحرية لعائلاتهم، ويواجهون جحافل من المتوحشين الذين سعوا فقط إلى قتلهم. وتم اختزال الصراع إلى «الإنسانية الإسرائيلية مقابل المشكلة الفلسطينية». لقد كانوا بحاجة إلى طريقة للتغلب على «المشكلة» أو إخضاعها حتى تتمكن الإنسانية الإسرائيلية من تحقيق أحلامهم. ولا يزال العديد من صناع القرار السياسي في واشنطن يمتلكون هذه الرؤية. وبينما كانوا يحزنون على الإسرائيليين بسبب صدمة السابع من أكتوبر، اعتبروا الإسرائيليين أشخاصاً حقيقيين، في حين بقي الفلسطينيون صورة مجردة لا تحظى إلا بالقليل من التعاطف. لقد استغرق الأمر شهوراً حتى بدأت تظهر أي تعبيرات حقيقية عن التعاطف مع عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين قُتلوا وما يصاحب ذلك من دمار للمنازل والمدن الفلسطينية. في وقت مبكر من هذه الحرب، تحدثت مع مسؤول كبير في البيت الأبيض الذي عبر عن ألمه بسبب فظائع السابع من أكتوبر.
أخبرته أنني أفهم ذلك وطلبت منه أن يأخذ في الاعتبار أيضاً الصدمة الفلسطينية. لكنه رفض بغضب طلبي ووصفه بأنه «توجيه اتهام مضاد»، مشيراً إلى أن نيتي كانت تبرير معاناة الإسرائيليين أو التقليل منها. ذكّرته بأن المعاناة ليست فلسطينية أو إسرائيلية، بل معاناة الطرفين. وبعد مرور خمسة أشهر، ومع مقتل 32 ألف فلسطيني ووقوع غزة على شفا المجاعة، بدأت الإدارة أخيراً تهتم بالأمر. ولكن هذا قليل جداً، ومتأخر جداً. وعلى الرغم من تركيز البيت الأبيض على الأزمة الإنسانية - نقص الغذاء والماء والدواء والإسكان - فإن الخسائر الأعمق التي لحقت بالفلسطينيين لا تزال غير موضع تقدير. وإذا أدركوا الخسائر الحقيقية، فلن يقوموا بإسقاط وجبات غذاء من السماء أو بناء رصيف بحري، ولن يفكروا في أن قيام سلطة فلسطينية مقوَّمة تؤدي العمل الشنيع الذي تقوم به إسرائيل هو سيناريو مقبول «لليوم التالي».
فإذا رأوا الفلسطينيين كبشر متساوين، فسيطلبون من الإسرائيليين وقف القصف، وإزالة الحظر المفروض على وكالة «الأونروا»، ودعم قرار الأمم المتحدة بإرسال قوات دولية إلى غزة والضفة الغربية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني لكليهما. وكانوا سينشئون جهوداً دولية للإغاثة وإعادة الإعمار لإعادة بناء غزة، ويرسلون فرقاً من الأطباء لمعالجة الجروح الجسدية والنفسية التي خلفتها الحرب. وبعبارة أخرى، فإنهم سيظهرون الشعور بالإلحاح والرحمة والرعاية التي يستحقها البشر.
(الاتحاد الإماراتية)