اسمحوا لي أن أحكي لكم قصة رواها الكاتب ارفنغ ولاس في أحد كتبه، تقول القصة: إن الملك الإنجليزي شارلز الثاني لديه عشيقتان، الأولى اسمها نيل غوين، قصيرة ذات شعر أحمر، عملت في بداية شبابها في ماخور ثم احترفت التمثيل حتى أصبحت عشيقة الملك في سن التاسعة عشرة، والثانية اسمها لويز دو كيرويال، فرنسية كاثوليكية، أرسلها الملك الفرنسي لويس الرابع عشر لتسلية الملك البريطاني شارلز.
وفي ظهر أحد أيام 1675 م، صعدت نيل غوين الإنجليزية في عربة العشيقة الفرنسية مسدلة الستائر على نوافذها حتى لا يتعرف عليها أحد، شقت العربة طريقها في شوارع لندن المزدحمة وبدأ الناس في كيل السباب لها على أساس أنها العشيقة الفرنسية للملك.
كان الخلاف بين الكاثوليك والبروتستانت قد بلغ أوجه خلال تلك الفترة من الزمن في أوروبا عامة وفي بريطانيا خاصة، وانشغلت محاكم التفتيش الكاثوليكية في تعذيب المخالفين البروتستانت الذين تحصنوا بقلعتهم الانجليزية وبدأوا بدورهم في إقصاء الكاثوليك وتهميشهم من الحياة العامة وقتلهم عند الحاجة.
بدأ الناس في الصراخ وتوجيه الإهانات على من بداخل العربة حتى غضبت السيدة غوين وطلبت من الحوذي إيقاف العربة، ثم أزاحت ستارتها وأخرجت رأسها للجماهير الغاضبة قائلة بأعلى صوتها:
صلوا أيها الطيبون، كونوا متحدين، فأنا مومس بروتستانتية.
وبصوت واحد تغيرت النبرة الغاضبة للجماهير إلى هتافات وتشجيع لها، لوحت لهم بيدها ثم تابعت العربة طريقها.
انتهى مع بعض التصرف.
في الأجواء المشحونة بكل الصراعات
الطائفية والدينية والعرقية يختفي المنطق من عقول الناس، ويتحول تفكيرهم إلى غريزي بدائي فاقدا لأبسط معايير الحياة والإنسانية، فتطفوا على السطح أدوات تلك الصراعات، فإن كان الصراع طائفيا بين البروتستانت والكاثوليك كما في القصة السابقة، فلن تكون المشكلة في الملك الذي لديه عشيقتين أحدهما تخرجت من ماخور طالما هي بروتستانتية صالحة، ولكن المشكلة في وجود أخرى كاثوليكية تمثل الجانب الآخر أو الجبهة الأخرى في الصراع الطائفي الحاد بين الفريقين.
ولو أسقطنا هذه الصورة على مناطق الصراع الطائفي في العالم العربي والمتمثلة في
سوريا والعراق لوجدنا أن الأمر هناك مشابه للقصة السابقة، ففي سوريا التي حكمتها عائلة الأسد والتي أدارت الدولة على أساس طائفي مقيت، لم تألو جهدا في تشتيت هذا الشعب وإهدار كرامته، فقسم الشعب إلى طوائف، إحداها طاهرة موالية، ممسكة بسوط السلطة وأدواتها، وأخرى مهمشة مهدورة الكرامة بائسة الحياة، ويكفي ذكر مكان الميلاد أمام أي ضابط أو حاجز أو مخفر ليتحدد أسلوب التعامل، وانتهى هذا التقسيم الطائفي بثورة عارمة أنهت حكم بشار خارج العاصمة وجعلته منبوذا مذموما، ينتظر الناس نهايته على أحر من الجمر.
أما في
العراق، فقد وصلت التنظيمات الشيعية المتطرفة إلى عرش بغداد، وبدأت تعامل الناس على أساس طائفي مشابه لحكم عائلة الأسد، فقسمت المناطق إلى سنية وأخرى شيعية، وهجر السنة من العاصمة وحزامها، ووضع سفهاء القوم وأرذالهم في مناصب عامة، ففسدوا وأفسدوا، وتعاملوا مع الشعب العراقي على أساس غير عقلاني بغيض لم يشهد العالم مثله منذ الاحتلال الصفوي للعراق عام 1508.
فتفنن هذا النظام الطائفي في القتل والتنكيل والتلاعب بعواطف عوام الشيعية، حتى غدت هذه الدولة من أكثر الدول تنفيذا لأحكام الإعدام التي يعلم الجميع أنها تتم على أساس طائفي محض، وأن الاعترافات تنتزع من المتهمين في سجون ومعتقلات سرية سيئة السمعة وسط حالة من الصمت المريب في أوساط الشيعة الذي يرون في قياداتهم صورة تلك العشيقة البروتستانتية التي تنتمي لنفس الطائفة، لا يهم ما تفعل أن كانت تذكرهم بأنها واحدة منهم، فما يهم هو دينها قبل دورها في الحياة.