بعد شهور قليلة من اندلاع
الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، كتبت مقالا بعنوان "هل سينتصر السوريون على نظامهم؟ الجواب لا يحدد موقفنا". وبعد ذلك بـ14 شهرا، في أكتوبر 2012، كتبت مقالا آخر بعنوان "الموقف الأخلاقي لمن يعنيهم الأمر".
في المرة الأولى، لم تكن رصاصة واحدة قد انطلقت (كان النظام يتوسل الرصاص بحسب تعبير فاروق الشرع لكي يتهم الثورة بالإرهاب)، وكان شبيحة النظام في الخارج وأدعياء المقاومة والممانعة يناكفوننا بالقول إن فرصة تكرار النموذجين التونسي والمصري غير واردة في
سوريا (لم يكن النموذج الليبي مطروحا يومها)، لأن النظام (برأيهم) متماسك، طبعا لأنه يستند إلى أقلية تسيطر على الجيش والأجهزة الأمنية؛ مع أقليات أخرى، إلى جانب طبقة من الغالبية السنية لا ترى لها مصلحة في إسقاطه.
قلنا يومها إن السؤال إياه لا يؤثر في موقفنا، فنحن لسنا تجارا ولا مرتزقة نحدد موقفنا بناءً على سؤال "من المنتصر ومن المهزوم؟"، فالقيم والمبادئ هي التي تحدد الموقف قبل أي شيء آخر، وهذه تدعونا إلى الانحياز للشعب السوري دون تردد، لأنه شعب خرج يطلب الحرية والكرامة.
بعد المقال الأول بـ14 شهرا، وتحول الثورة في سوريا إلى ثورة مسلحة استعدنا ذات السؤال في ظل تكرار ذات الفئة لذات المقولات حول صمود النظام وتماسكه، وإنه باق "رغم أنف المؤامرة"، وتبعا لذلك القول إن دعم الثورة هو نوع من السلوك العبثي الذي يراهن على الحصان الخاسر.
الآن، نستعيد ذات المسألة من جديد بعد 3 سنوات على الثورة، وبالطبع بين يدي موجة شماتة جديدة من الصغار إياهم مردها حالة الاستعصاء التي تعيشها الثورة، والتي تشير إلى أن الحسم العسكري (من الطرفين) ليس واردا في الأمد القريب، حتى لو قيل إن قليلا من التقدم أحرزه النظام، وهو تقدم سيحتاج إلى سنوات طويلة كي يصل إلى الحسم؛ حتى لو استمر بالفعل، فكيف وهو ليس تقدما مضطردا، بل حالة من الكر والفر، بدليل تقدم الثوار في ريف اللاذقية بعد تقدمه (تقدم حزب الله ومقاتلي الخارج بتعبير أدق) في يبرود والقلمون.
فلندع بعض قبائل اليساريين والقوميين الذين لم يكونوا يوما معنيين بقيمة الحرية، ولنتجاوز فصيلا من الطائفيين غير المسلمين الذين سكنتهم أحقادهم على الإسلاميين (السنّة) تحديدا لأن الآخرين يمكن أن ينضووا في "حلف الأقليات" ضد الغالبية السنيّة بطبعتها الإسلامية. لندع هؤلاء، ونتوقف قليلا عند طائفيين من الشيعة انقلبوا على مبادئ المذهب نفسه، وانحازوا ليزيد ضد الحسين.
لم تكن فرص نجاح معركة الحسين ضد يزيد متوفرة، ومعظم الصحابة الذين كانوا موجودين يومها قالوا له ذلك، لكن أحدا منهم لم يشكك في الحسين، ولا قال إنه مدفوع من القوى المعادية التي كانت جيوش يزيد (جيوش المسلمين) تقاتلها في تلك الأثناء، بل إن أحدا لم يجد في فكرة الخروج عليه حراما، بقدر ما تعلق الأمر بتقدير لميزان القوى.
من هنا، ما كان لنا نحن الذي نحب الحسين أن نقف ضده (ضد الشعب السوري)؛ فقط لأن فرص نجاحه ليست متوفرة، ولا أعتقد أن عاقلا، بما في ذلك مؤيدو بشار يمكن أن يماروا في أن نظامه كان فاسدا مستبدا (دعك من حكاية الإيمان والكفر)، لأن الحسين لم يكفّر يزيدا رغم خروجه عليه.
حين تحدث هذه الفئة من الناس عن هذا البعد تنخرس ألسنتهم، وكما ناقشت منهم في مواقع التواصل، لكنهم لم يردوا على هذه الحجة أبدا، وكانوا يتجاوزنها إلى الحديث الممجوج عن ممارسات المجموعات المسلحة، لكأننا عاجزين عن الرد عليهم وتذكيرهم بستة شهور من الموت في الشوارع دون رصاص، بل حتى ولا حجارة.
الطرف الأول لا يقل سخفا في واقع الحال، ومعه الطرف الثاني حين يستخدم ذات النظرية (نظرية المؤامرة والمقاومة الممانعة) التي سقطت سقوطا مروعا بموقف الأمريكان من تسليح الثوار بالسلاح النوعي، وبميل الصهاينة لإطالة المعركة من أجل تدمير الجميع، الأمر الذي ما كان له أن يحدث لو سقط النظام، وما كان لشعب سوريا أن ينحاز ضد المقاومة والممانعة؛ هو الذي لم يخرج ضدها، بل خرج ضد الفساد والاستبداد، اللهم إلا إذا كان نوري المالكي، ومن جاؤوا على ظهر الدبابة الأمريكية أشرف منه.
ربما بات المخلصون من أبناء هذه الأمة، ممن انحازوا للحسين، أي للشعب السوري، يميلون إلى تأييد الحل السياسي، وهم لم يكونوا ضده أصلا، بل ربما دعوا إلى تفاهم تركي عربي إيراني ينهي المأساة، بخاصة بعد أن أصبحت تفيد أعداء الشعوب في مطاردة ما تبقى من الثورات، وفي مطاردة القوى الحية في الأمة، لاسيما أن الشعب لن يعارض ذلك على الأرجح ما دام الوضع لن يعود إلى ما كان عليه في القديم من حيث سيطرة فئة معينة صغيرة على مفاصل السلطة.
أيا يكن الأمر، فقد وقفنا في المعسكر الصحيح، معسكر الأخلاق والقيم، معسكر الشعوب، معسكر المقاومة الممانعة الحقيقي، وليس الكاذب الذي باع الكيماوي من أجل البقاء، أو نقل السلاح من قتال الصهاينة إلى قتل الشعب السوري، كما هو حال حزب الله. لذلك كان ضميرنا مرتاحا، وهو سيبقى مرتاحا، بينما يجلل العار أولئك الذين وقفوا إلى جانب طاغية أمعن في قتل شعبه، ودمر بلده، بل استنزف الأمة لصالح الصهاينة، فقط لاعتبارات شخصية وعائلية وطائفية حقيرة. وفي النهاية، فنحن واثقون من أن وضع سوريا لن يعود إلى ما كان عليه مهما طال أمد الحرب.