لم يعرف العالم منذ عقود طويلة هذا المستوى من الارتباك والتعقيد في
المشهد السياسي الدولي كما يحدث هذه الأيام، ويبدو أنها مرحلة الانتقال من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية التي تشتبك فيها القوى على المصالح والنفوذ.
بيد أن المشهد العربي والإقليمي يدو أكثر تعقيدا وارتباكا هو الآخر، ويبدو أن سوريا كانت السبب الأكبر لهذا الارتباك، هي التي كانت جزءا من محور عربي يسمى محور المقاومة والممانعة، مقابل محور آخر يسمى "الاعتدال"، وجاءت ثورتها ضمن ما يسمى ثورات الربيع العربي، وما تبعها من مراوحة وتعقيد لتلقي بظلالها على المشهد كله.
من أجل الوقوف إلى جانب بشار
الأسد، صارت
إيران وحلفاؤها في مربع مناهض لأشواق الشعوب العربية في التحرر، والتقت في ذلك مع المحور الآخر، ولو كان موقفها مختلفا لكانت مسيرة الربيع العربي قد مضت بشكل أفضل، وصولا إلى التمدد نحو جميع الدول العربية بأشكال شتى.
واللافت هنا أن المحور المناهض لثورات الشعوب العربية لم يلبث أن انضم إلى الدول الداعمة في الظاهر لثورة سوريا، تبعا لحسابات داخلية تتعلق بالانحياز الشعبي العارم لها، وعدم القدرة على مواجهته، إضافة إلى حسابات تتعلق بالمواجهة مع التمدد الإيراني في المنطقة.
هكذا تسبب الطرفان في إجهاض الربيع العربي، وعلى الأقل وقف تمدده، فتم إجهاضه في محطته الأبرز (مصر)، وتكفلت إيران بسوريا، فيما تتم مطاردته بشكل واضح في المحطات الأخرى، حتى رأينا أن إجهاضه في اليمن قد دفع الطرفان إلى اللقاء على تخريب
الثورة عبر دعم الحوثيين مثلا، إن بشكل مباشر أم غير مباشر، مع حضور لهاجس إبقاء اليمن دولة ضعيفة في عرف الطرف العربي المجاور.
واللافت أن دعم محور ما يسمى الاعتدال لثورة سوريا لم يفض إلى نجاحها، ويبدو أنه لم يكن يريد ذلك من الناحية العملية، بقدر ما يريد استنزاف إيران، ومن ثم ضرب الربيع العربي برمته، عبر جعل الدمار الذي حلَّ بالبلد والمعاناة التي أصابت أهلها درسا للآخرين، بدليل أن ذات المحور ما زال يلعب لعبة التخريب على الثورة الليبية، وهي الوحيدة التي كانت برسم النجاح نظرا لغياب الإشكال الاقتصادي الذي أرهق الثورات الأخرى، وكذلك على الثورة اليمنية والتونسية.
هكذا بدا أن عقدة الثورات، إلى جانب العقدة مما يسمى الإسلام السياسي السني قد استحوذت على تفكير محور الاعتدال العربي، وتقدم كثيرا على مواجهة المشروع الإيراني، بدليل أنه لم يهزمه في سوريا، ولم يحجِّمه في العراق، بل لم يقلم أظافره في اليمن، وإن تمكن من منع تدخله في البحرين نسبيا.
وفيما استنزفت إيران في سوريا، وهي تضطر تحت وطأة ميل شعبها إلى التخلص من العقوبات إلى التفاوض مع "الشيطان الأكبر" وسط صراع داخلي بين المحافظين والإصلاحيين على كعكة السلطة، فقد وصل الاستنزاف إلى تركيا أردوغان أيضا، والسبب الأكبر هو سوريا أيضا، فضلا عن استهدافها من قبل أنظمة الثورة المضادة.
اليوم، وفيما كان ينبغي لمجلس التعاون الخليجي أن يخطو خطوات أكبر نحو الوحدة، ها إننا نرى أن الشرذمة قد طالته أيضا، وما سحب ثلاث دول لسفرائها من الدوحة، سوى واحد من تجليات الاضطراب في الوضع الخليجي، سبقه رفض عُمان لفكرة الاتحاد الخليجي، والأرجح أن يؤدي ذلك إلى خطوات قطرية نحو إيران، بعد تمتين علاقة عُمان معها.
في مصر لا يزال الوضع مرتبكا رغم المليارات التي ضخت، ويبدو أن هذا الارتباك هو الذي زاد في نزق من اعتبروا إجهاض ثورتها من أبرز أولوياتهم، وفي سوريا ثمة مراوحة وعدم قدرة على الحسم، لا من الثورة، ولا من النظام. كذلك الحال في العراق، فيما يبدو أن أردوغان سيتمكن من حسم وضعه الداخلي رغم ضخامة المؤامرة، وإن خرج منها أقل قوة مما كان عليه، مع أن ذلك ليس محسوما تماما بحسب ما تشير استطلاعات الرأي.
في ظل ذلك تبدو سوريا هي عقدة العقد، فيما لا يبدو أن هناك حرصا جديا من قبل أمريكا والغرب على إنهاء مأساتها، لاسيما أن هناك ارتياحا لما يجري، كونه يصب في صالح نتنياهو، وسيساهم في فرض حل على إيران فيما يتعلق بالبرنامج النووي، بعد أن فرض التخلي عن السلاح الكيماوي من قبل النظام السوري.
في ضوء ذلك لا يبدو أن ثمة افقا لحل قريب لهذه الكتلة من التناقضات، اللهم إلا إذا تفاهمت تركيا مع إيران وبدعم بعض الدول العربية، وفي مقدمتها قطر على إيجاد حل ما للاستعصاء السوري، قد يتبعه تفاهم على تهدئة الوضع في العراق أيضا. وإذا ما حصل ذلك، فقد يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل الربيع العربي، بوجود محورين، وهو ما قد يسهم في إنقاذ القضية الفلسطينية من حل بائس، فيما يُخرج الوضع عموما من حالة الاستنزاف الكبير إلى ما يشبه الصراع البارد، والذي ستتولى بعده الشعوب العمل على استكمال ربيعها بالطرق التي تراها مناسبة، كل بلد بحسب ظروفه.
مسار كهذا يتطلب رشدا من إيران لا يبدو متوفرا إلى الآن، والسبب أن المحافظين تسكنهم عقلية التمدد، فيما يمضي الإصلاحيون نحو تفاهم مع الغرب، ويعوّلون عليه أكثر من أي شيء آخر، مع احتمال أن يقبل المحافظون بذلك كبديل عن صفقة النووي، أو من أجل تقوية وضعهم التفاوضي مع الغرب.
إذا لم يتم التفاهم، واستمر الاستنزاف، فإن البؤس سيستغرق سنوات طويلة، حتى يتعب الجميع من الصراع المذهبي والسياسي في آن، ويجلسوا للتفاهم، وربما تكون بعض الدول قد اقتنعت أنها برفضها الإصلاح السياسي ومشاركة الشعوب، إنما تجدف عكس تيار التاريخ.