في مقابلته مع الجزيرة التي أجراها تيسير علوني قبل شهرين ونيف، قلل أبو محمد
الجولاني (أمير جبهة النصرة) من الخلاف الناشب بين جبهته وبين تنظيم
الدولة الإسلامية في العراق والشام بقيادة "أبو بكر البغدادي"، رغم رفض الأخير لتعليمات الظواهري باعتبار الجبهة هي ممثل القاعدة في
سوريا.
لكن المياه التي جرت منذ ذلك الحين لم تترك للجولاني من سبيل سوى الجهر بشكواه، وصولا إلى التهديد كما حصل في التسجيل الذي نشر على مواقع التواصل، لاسيما إثر اغتيال "أبو خالد السوري" الذي كان وسيط الظواهري بين التنظيمين.
في تسجيله المشار إليه كان الجولاني واضحا في اتهام تنظيم الدولة باغتيال السوري، رغم نفي التنظيم لذلك، لكن الأهم من ذلك هو إمهاله 5 أيام لقبول التحكيم الشرعي، ووضع أسماء كجزء من التحكيم من الصعب أن تكون مقبولة من طرف البغدادي، لاسيما أن اثنين منها سبق أن أبديا رأيا مناهضا له، وهما "أبو محمد المقدسي"، و"أبو قتادة"، وكلاهما معتقل، فيما يصعب الحصول على رأي الثالث (الشيخ سليمان العلوان) المعتقل أيضا.
والحال أن تنظيم الدولة لم يترك له بين المشايخ المحسوبين على تيار السلفية الجهادية من صديق، أعني المعروفين منهم، وتعرض لهجمات مباشرة من بعضهم، لكن الجولاني لم يكن قد تحدث بمثل هذا الحسم سوى هذه المرة.
وفي حين كان "أبو خالد السوري" من الجيل الأول للقاعدة، وله صلاته المباشرة مع أسامة بن لادن والظواهري، فإن البغدادي لم يكن كذلك، الأمر الذي ينطبق بطبيعة الحال على الجولاني، ذلك أن تنظيم الدولة هو نتاج تنظيم "التوحيد والجهاد" الذي أسسه الزرقاوي في العراق بعد الاحتلال، والذي التحق تاليا بالقاعدة وصار اسمه "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"، وكان له دور كبير في قتال الأمريكان، قبل أن يعلن انصهاره فيما يعرف بالدولة الإسلامية في العراق التي ما لبثت أن دخلت في معارك جانبية مع قوى المقاومة السنية والعشائر والمنخرطين في العملية السياسية، الأمر الذي أسفر عن تراجع كبير في حضورها إثر معارك مع ما يعرف بالصحوات التي أنشأها الأمريكان بالتعاون مع المالكي، لكن تنظيم الدولة ما لبث أن عاد بقوة من جديد بسبب فشل الاحتجاج السلمي للعرب السنّة في تحصيل مكاسب سياسية لهذه الفئة من نظام المالكي الطائفي، وصولا إلى إعلان البغدادي تأسيس الدولة الإسلامية في العراق والشام، الأمر الذي رفضته جبهة النصرة التي كانت "ثمرة" من ثمار الدولة كما قال البغدادي، وأكد ذلك الجولاني.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: كيف سيرد البغدادي على دعوة الجولاني للتحكيم الشرعي؟ ستكون مفاجأة طيبةبالطبع إذا قبل بذلك، حتى لو قيل إن أي تحكيم لن يكون في صالح تنظيمه، بصرف النظر عن طبيعة التهم التي يتقاذفها الطرفان، مع العلم أن الطرف الثاني لا يضم جبهة النصرة فحسب، بل يضم طيفا واسعا من الفصائل الإسلامية التي انضوت فيما يعرف بالجبهة الإسلامية.
وإذا كان الرد هو ما يتوقعه كثيرون، أعني تجاهل البغدادي لدعوة الجولاني، أو الرد عليها بالرفض، فإن ذلك يعني تصعيدا في الحرب بين المجموعات الإسلامية المنضوية تحت لواء الجبهة، ومعها جبهة النصرة من جهة، وبين تنظيم الدولة من جهة أخرى.
وكان لافتا أن تهديد الجولاني لم يتوقف عند حدود الرد على البغدادي في سوريا، بل هدده في العراق أيضا، وهو تطور يعبر عن مدى الضيق الذي بلغه الرجل ومن حوله، وإن كان الأمر صعبا في العراق، وحيث يسيطر البغدادي على الوضع تماما.
من المؤكد أن النظام السوري سيكون سعيدا بتصعيد الاقتتال، لكنه قد يؤدي من زاوية أخرى، إلى انفضاض كثيرين من حول تنظيم الدولة وانخراطهم في النصرة وسواها، هم الذين لا ينقصهم الإخلاص، وصولا إلى إعادة اللحمة للصف الإسلامي، وبداية جولة جديدة من المواجهة مع النظام، بدل الانشغال بالاقتتال الداخلي.
كان لافتا بالطبع في رسالة الجولاني كلامه القاسي حيال الائتلاف وهيئة الأركان، وهو ما يشير بدوره إلى معضلة أخرى في المشهد السوري تتمثل في صراع مع فصائل أخرى غير إسلامية الهوية، أقله من حيث قيادتها، وهي تحظى بدعم جهات عربية، وربما أجنبية.
كل ذلك سيكون له تأثيره على المشهد في ظل حديث عن تحرك من الجنوب بقدرات تسليحية مختلفة هدفها تغيير ميزان القوى لدفع مسار الحل السياسي، وليس لحسم الموقف العسكري. وإذا ما حدث ذلك، فإن الحل السياسي سيُفرض على الجميع بتفاهم إقليمي دولي، لأن آفاق الحسم العسكري القريب، وربما المتوسط تبدو غائبة، إن كان الصالح النظام، أم لصالح الثوار بفصائلهم المتعددة، فيما يُستنزف الجميع، وتدمَّر البلد، ولا يربح غير الكيان الصهيوني.
متى سيحدث ذلك؛أعني فرض الحل السيسي؟ لا أحد يملك جوابا، لاسيما أن التعقيدات والتباينات على الأرض تبدو هائلة، ما يعني أن النزيف سيتواصل إلى أمد لا يُعرف مداه. ويبقى أن اقتتال فصائل إسلامية فيما بينها على مكاسب لم تتحقق هو بحد ذاته كارثي، ويشي بمحدودية في الأفق السياسي. محدودية تدفع بعضهم كما هو حال تنظيم الدولة إلى الاعتقاد أن بوسعه محاربة العالم أجمع، ثم الانتصار في الحرب.
نأمل مرة أخرى أن يتوصل القوم إلى كلمة سواء تحقن دماءهم، وستضعهم جميعا في مواجهة مجرم يمعن قتلا في الشعب وتدميرا للبلد.