عندما تسمع أبواق
الديكتاتوريات العربية الآفلة وهي تتوعد بإعادة الشعوب إلى حظيرة الطاعة بالقبضتين الأمنية والعسكرية، لا شك أنك ستقلب على ظهرك من شدة الضحك لتفاهة هذه التصريحات وسذاجتها ونكرانها للتحولات التي يشهدها الإنسان العربي عموماً والسوري خصوصاً. وكل من يعتقد في سوريا وبقية العالم العربي أن طرق الهيمنة والسيطرة التقليدية مازالت ناجعة في إخضاع الأجيال الصاعدة فهو إما مغفل، أو ابن ستين ألف مغفل.
الكثيرون يركزون في تحليلهم لأسباب الثورات، على الفقر والتهميش، لكنهم ينسون سبباً في غاية الأهمية، ألا وهو أن السموات الإعلامية المفتوحة، وأنظمة التعليم الحديثة لعبت دوراً مهماً جداً في إنتاج أجيال وعقليات ثورية جديدة لا يمكن السيطرة عليها بالطرق الأمنية القديمة، لأنها تختلف تماماً عن الأجيال السابقة التي تربت على الخضوع السياسي والاجتماعي والثقافي. لابد من التركيز ونحن نستشرف المراحل القادمة في عالمنا العربي على طبيعة الإنسان العربي الجديد، فهو إنسان لا يمت للإنسان الذي سبقه بصلة، من حيث قدرته على التمرد والعصيان والمواجهة.
لقد درج الإنسان العربي التقليدي على العمل بمقولة: "إمش الحيط الحيط، وقل يا ربي السترة"، لأنه تربى على الخنوع والخضوع وتجنب المواجهة، خاصة بعد ما عايشه من قهر سياسي وأمني فاشي ووحشي بامتياز. لكن، لو طلبت من الأجيال الصاعدة أن تسير على الوصفة ذاتها، لضحكت عليك، وسخرت من خنوعك. وإذا أردت أن تتعرف على الفروق بين الأجيال القديمة والجديدة، فقط قارن نفسك إذا كنت من الجيل القديم، بابنك أو بنتك التي ولدت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، فستجد أن شتان بين الثريا والثرى. أول ما ستلاحظه أن الجيل الجديد جيل معتد بنفسه وحريته وكرامته، لا يقبل الأوامر، متمرد، ويسخر من كل أنواع السلطة، وأولها السلطة المنزلية. ومن يستطيع أن يُسقط سلطة الأب والأم الديكتاتورية، سيُسقط أعتى الأنظمة السياسية. ويعود السبب في ذلك، بالإضافة إلى التأثيرات التعليمية والإعلامية والثقافية الجديدة، يعود أيضاً إلى أن الجيل القديم الذي تربى على الذل والهوان بات هو نفسه يرفض تربية أبنائه وبناته على الخضوع والخنوع، حتى لو تمردوا عليه، فلا يمكن لمن عانى القمع والقهر بكل أنواعه أن يطلب من ذريته أن تقبل بما كابده وعاناه هو من مذلة وركوع.
لا أدري لماذا مازالت
الأنظمة الأمنية كالنظام السوري الفاشي وغيره يتجاهل المؤثرات الثقافية والإعلامية والتعليمية الجديدة التي بدأت تصوغ أجيالاً وعقليات جديدة مستعدة أن تزلزل الأرض تحت كل من يحاول تدجينها وإخضاعها. حتى لو امتلكت الدولة الأمنية الساقطة أعتى الأسلحة والأساليب التركيعية الفاشية، فهي لم تعد قادرة على منافسة وسائل الإعلام الحديثة، خاصة مواقع التواصل والفضائيات في صياغة العقليات الجديدة. أتذكر قبل حوالي خمسة عشر عاماً أن المخابرات السورية كانت تعتقل بعض الأشخاص الذين كانوا يشاهدون برنامج "الاتجاه المعاكس" لما يحتويه من آراء وأفكار غير تقليدية وشاذة عن النمط المعتاد، ظناً منها أنها قادرة على ضبط الأجيال الصاعدة وتطويعها بالطريقة القديمة، لكنها أدركت لاحقاً، أنها بحاجة لألوف الفروع الأمنية إذا ما أرادت ضبط الفضاء الإعلامي والتحكم بمشاهدات الشعوب. باختصار، فقد نجح الإعلام الخارق للحدود في تكسير الهيمنة الأمنية على عقول الأجيال الصاعدة، فبدأ يخرج إلى العلن نمط جديد من التفكير يقوم على التمرد والاستقلالية والتحرر والانعتاق. وهذا النمط لا يمكن لأي قوة أمنية أن تخضعه، لأنه أصبح قادراً على المواجهة، وبات يدوس على المثل الشعبي الذي يدعوه بأن "يمشي الحيط الحيط".
ويذكر أحد الكتاب أنه قبل سنتين كان معه في السيارة ابنه الذي لم يبلغ من العمر بعد أحد عشر عاماً، فسأله: "ماذا يحدث في ذلك البلد العربي؟ لماذا نشاهد مظاهرات يومية في التلفزيون هناك"، فقال له إن الشعب ثائر على الرئيس، فقال الولد: "لماذا"، فرد الأب كي يبسط له الأمور:"لأن الرئيس اعتاد أن يظلم ويقهر الشعب، ويسجن المعارضين لأتفه الأسباب"، فبدأ الولد يتململ في المقعد الخلفي، وكأنه يستعد لمباراة ملاكمة، ثم أردف قائلاً: "ولماذا لا يقتلون ذلك الرئيس الزنديق الحقير؟ لماذا لا تقترب مجموعة من الأشخاص من قصره وتدمره بالقنابل الحارقة التي نلعب بها في ألعاب "أكس بوكس" و"بلي ستيشن"؟" لاحظوا أن أول شيء فكر به الولد عندما سمع بالظلم هو اللجوء إلى المواجهة مع الرئيس الذي يقهر شعبه. لم يعد رد فعل الأجيال الصاعدة يتسم بالخوف والخنوع والاستكانة، بل لديه ميل جارف للمواجهة والتصدي. ويذكر أحد السوريين في هذا السياق أنه عندما سمع بموت حافظ الأسد على التلفزيون، انطلق مسرعاً ليخبر أباه في الحمام، فدق الباب مرات، حتى خرج الوالد من الحمام مرعوباً، فقال للولد: "ماذا تريد"، فأجاب الولد:" مات حافظ، مات حافظ"، فقال الوالد: "أخفض صوتك أيها الأحمق". تصور أن الأب كان يخشى حتى من سماع خبر موت حافظ الأسد، بينما تجد الشباب السوري الجديد لم يترك صورة أو تمثالاً لا لبشار ولا لأبيه إلا وداسها وحطمه. ومازلنا حتى الآن نرى في سوريا مثلاً أن الأب أو الأم تخشى وضع "لايك" بجانب بوست فيسبوكي، بينما تجد الأولاد يمسحون الأرض بالنظام ورموزه على صفحات مواقع التواصل.
لاحظوا أن من أشعل فتيل الثورات العربية وقادها هو الجيل الشاب تحديداً في الساحات والميادين، ثم التحقت به الشرائح القديمة. لهذا تدرك الأنظمة الطاغوتية أن الشباب يشكل تحدياً كبيراً بالنسبة لها، لهذا فهي تعمل على إفراغ بلادها من الشباب، كما يفعل نظام بشار الأسد منذ عقود. ففي بعض المناطق تجد أن أكثر من تسعين بالمائة من الشباب مهاجر بدعم وتسهيل من النظام. وقد لاحظنا أن أحد
أسباب تخلف بعض المناطق عن اللحاق بركب الثورة هو عدم وجود العنصر الشبابي فيها.
صحيح أن الطبقات السياسية قادرة على تطويع الأجيال الصاعدة وصياغة عقولها عن طريق المال والإعلام، كما تفعل الأنظمة الغربية منذ صدور كتاب "بروبوغاندا" في أمريكا لإيدوارد بيرنيس عام 1922، لكن طريقة التطويع لن تكون عبر العنف والإخضاع المادي كما يفعل النظام السوري وغيره. بعبارة أخرى، فإن الأجيال الجدية مستعدة أن ترد لأجهزة الأمن الإرهابية الصاع صاعات، إذا لجأت إلى أساليبها العنيفة القديمة. وكما نرى الآن، فقد بات الشباب السوري قادراً على مواجهة القبضة الأمنية بالقوة، مما جعل الأجهزة الأمنية تنسحب شيئاً فشيئاً من الشوارع، وتلجأ إلى أساليب العصابات القائمة على مبدأ: اضرب واهرب، لأنها باتت تخشى ردة الفعل في الشوارع. ففي الماضي، كان عنصر أمن واحد قادراً على اعتقال أي شخص من بيته، وترويع الحي بأكمله. أما الآن، فإذا أرادت أجهزة الأمن السورية اعتقال شخص، ترسل له عشرات العناصر المسلحين لاعتقاله، لأنها باتت تدرك أن الزمن الأول تحول.
لم أعد أخشى من الاستبداد في بلادنا، فالأجيال الصاعدة لن تسمح للمستبدين أن يسودوا كما سمحت الأجيال السابقة، لهذا فإن الإنسان العربي الجديد سينتج قيادات جديدة قادرة على التعامل مع الأجيال الجديدة بعقلية الأجيال الجديدة. لهذا لا تحلموا أيها الطواغيت بإدخال الأجيال الصاعدة إلى زريبة الطاعة!
(بوابة الشرق)