لا شك أن
سوريا اليوم تعيش في أسوأ مرحلة انتقالية تمر بها الدول، وهو وضع شاذ بكل المقاييس، ولا يمكن أن يستمر على هذا الحال طويلا، مهما كان ذلك في مصلحة العابثين بالجغرافيا السورية وبالشعب السوري. لا بد من التوصل إلى حل مناسب للداخل والخارج، حتى لو كان جراحيا مؤلما وقاسيا. لكن هل سيعيد الحل، أياً كان نوعه وقساوته، هل سيعيد سوريا كتلة واحدة يا ترى؟ أم إن هناك عوامل كثيرة باتت تعيق عملية التوحيد ولملمة الأشلاء الممزقة مهما كان نوع الحل؟.
لا شك أن السوريين جميعا، معارضين ومؤيدين، تواقون لإعادة تجميع التراب السوري الذي مزقته الصراعات الخارجية على أرض سوريا، ونهشته الأحقاد الداخلية بين السوريين أنفسهم، لكن ذلك الإجماع السوري على إعادة توحيد البلاد، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يقبله القسم المعارض من السوريين، مع بقاء
النظام الحالي الذي أدى الدور الأكبر في تدمير سوريا بشرا وحجرا، والذي عمل جاهدا على تفتيتها وزرع الأحقاد بين مكوناتها كي يعيش على تناحرها، والذي باعها بالجملة والمفرق برخص التراب كي يحمي عرشه الذليل.
وحتى ما يسمى بالمؤيدين يتمنون أن يتغير النظام ورأسه البارحة قبل اليوم؛ لأنهم أدركوا متأخرين، أنهم، كالمعارضين، كانوا ضحية لممارسات النظام الفاشية الوحشية، حتى لو لم يرم عليهم البراميل المتفجرة، أو يدمر بيوتهم، لكنهم بالتأكيد يرون اليوم بأم أعينهم كيف يمارس بحقهم أبشع أنواع التنكيل المعيشي والحياتي، رغم أنهم قدموا له الغالي والنفيس في حربه على بقية السوريين. لم يعد يخفى على أحد اليوم أن ملايين المؤيدين باتوا يحسدون اللاجئين السوريين في دول الجوار على عيشتهم التعيسة، على الأقل لأنهم يستمتعون بأبسط أساسيات الحياة كالماء والكهرباء والخبز والإنترنت، بينما أصبحت الكهرباء في (سوريا الأسد) حلما بعيد المنال بالنسبة لملايين السوريين، ناهيك عن أن أبسط احتياجات السوريين كالخبز والمازوت والغاز والبنزين أصبح تحصيلها معقدا ومذلا جدا، عبر ما يسمى بالبطاقة الذكية سيئة الصيت، التي بات السوريون يتهكمون عليها ليل نهار، بعد أن أصبحت من أشنع وسائل التنكيل والإذلال التي يمارسها النظام بحقهم.
العامل الآخر الذي يحول دون إعادة توحيد التراب السوري، أن ملايين السوريين في المناطق غير الخاضعة للنظام، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين، لا يمكن أن يعودوا مع بقاء النظام.
ولا ننسى أن النظام اليوم يمارس، بالإضافة إلى ذلك، على مؤيديه أبشع أنواع الجباية لتمويل أجهزته القمعية والقهرية، مع العلم أن رواتب السوريين لم تعد تكفي لشراء الحاجات الأساسية لأسبوع واحد، مع ذلك عليهم أن يدفعوا كل أنواع الضرائب والإتاوات حتى على استخدام الموبايل. تصوروا أن على المواطن السوري أن يدفع ضريبة حتى على الهاتف المحمول تفوق أحيانا سعر الهاتف نفسه، وهي ضريبة لا توجد ربما إلا في سوريا وبعض الدول التعيسة، التي تتفنن بالتنكيل ونهب وسلب شعوبها.
يقول المثل الشعبي، كما أن التاجر المفلس يفتش بدفاتره القديمة، لم يعد للنظام السوري من وظيفة سوى التفتيش بجيوب السوريين المعتّرين الذين يعيش أكثر من تسعين في المئة منهم تحت خط الفقر، مع ذلك، فهم ربما أصبحوا المصدر الوحيد للنظام كي يمول نفسه. ونظرا لهذا الوضع الكارثي في سوريا اليوم، فإن المعارضين والمؤيدين أصبحوا على قلب رجل واحد فيما يتعلق بموقفهم الرافض لبقاء النظام. وإذا بقي النظام فهذا يعني مؤكدا أن سوريا ستظل تراوح في المرحلة الانتقامية إلى ما شاء الله، ومن ثم ستبقى ممزقة، وربما تختفي كليا عن الخارطة في قادم السنوات، خاصة أن الجنوب السوري بدأ منذ فترة ينظف مناطقه من رجس النظام وأجهزته كما يحصل في السويداء اليوم.
أما العامل الآخر الذي يحول دون إعادة توحيد التراب السوري، أن ملايين السوريين في المناطق غير الخاضعة للنظام، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين، لا يمكن أن يعودوا مع بقاء النظام، وخاصة المناطق التي ذاقت الأمرّين من ممارسات النظام الطائفية والإجرامية المبرمجة. والنظام يعرف ذلك جيدا، فلا هو يريد عودتهم إلى سوريا ولا هم يريدون العودة إليه. وقد اعترف بشار نفسه في أكثر من مرة بأن سوريا (للمتجانسين) فقط كما أسماهم هو نفسه، أي مؤيديه وحُماته من إيرانيين وروس ومليشيات طائفية. وكلنا كان قد سمع نصيحة عصام زهر الدين الفاشية للاجئين السوريين في الخارج، عندما قال لهم جملته المشهورة: «نصيحة من هالذقن لا ترجعوا». وهذا بدوره مؤشر على استحالة إعادة توحيد أشلاء البلاد الممزقة.
إظهار أخبار متعلقة
قد يقول البعض؛ إن النظام فيما لو امتلك القوة اللازمة قادر أن يعيد كل المناطق السورية تحت سيطرته، خاصة أن أسماء الأسد تجهّز اليوم ابنها حافظ الثاني ليستلم الحكم في سوريا، شاء من شاء وأبى من أبى، لكن هل هذا ممكن؟ هل يمكن للنظام أن يمتلك القوة اللازمة ثانية لاستمرار حكم العائلة الأسدية؟ هل لديه الموارد للحصول عليها؟ هل مسموح له أن يستعيد قوته؟ أليس وجوده وبقاؤه أصلا مرهونا بوجود قوات ومليشيات إيرانية وقواعد روسية بضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي؟ ألم يعترف نائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، أندرو أكسوم، أمام الكونغرس في خطاب شهير قبل سنوات، بأن أمريكا هي من حثت الروس والإيرانيين على دخول سوريا لحماية النظام؛ لأن سقوطه كان سيشكل خطرا على أمن إسرائيل؟ إذن، باختصار، لا يستطيع النظام استعادة سوريا الأسد بوضعه الحالي، إلا أن البعض يرى أن اتفاقا تركيا روسيا إيرانيا سوريا، قد يساعد النظام على إعادة المناطق الخارجة عن سيطرته إلى سلطته. لكن هل هذا ممكن يا ترى؟ وهل الأمر بهذه السهولة؟ وهل الروس والإيرانيون والأتراك والنظام هم من يقررون مصير سوريا، أم إنهم جميعا لا يستطيعون التوصل إلى أي حل من دون المباركة الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية؟ ولا ننسى أن الرئيس الروسي بوتين في أحد تصريحاته القديمة، لم يتحدث عن شعب سوري، بل عن شعوب سورية، وهذا يعني ضمنا، أن سوريا القديمة قد انتهت.
وأخيرا، هناك عامل أقوى من كل العوامل الأخرى التي تحول دون إعادة توحيد التراب السوري. هل يا ترى أوصل ضباع العالم سوريا إلى هذا الوضع الكارثي ودمروها ومزقوها، ودقوا بين مكوناتها مئات الأسافين الطائفية والعرقية والاجتماعية القاتلة بالتعاون مع النظام وبقية العابثين بسوريا، كي يعيدوها كما كانت واحدة موحدة؟ أرجو أن نكون مخطئين.
المصدر: القدس العربي