لعل الحديث عن فتح ملف قضاة من أجل
مصر، واستدعاء عدد من رموز
القضاء في مصر، إلى التحقيق، أمثال محمود مكي نائب الرئيس محمد
مرسي، وشقيقه أحمد مكي، الذي تولى مسؤولية وزارة العدل في حكومة الدكتور قنديل، ومعه أحمد سليمان، والمستشار حسام الغرياني الذي تولى رئاسة لجنة دستور 2012، وزكريا عبدالعزيز رئيس نادي القضاة الأسبق، يدخل في إطار ما اعتبره البعض مذبحة جديدة للقضاء، على نمط ما حدث في عام 1969، في زمن جمال عبدالناصر، ويمثل سلسلة جديدة من الصراع الداخلي بين مؤسسة القضاء ذاتها، بين جناحين، أحدهما مؤيد للسلطة الحاكمة، بغض النظر عن توجهاتها ومواقفها.
والآخر الذي يحرص على استقلال السلطة القضائية، والبعد الثاني في المشهد، يتعلق بالمواجهة بين الدولة من جهة، وجزء من المؤسسة القضائية.
ولا يبدو الأمر غريبا بالنظر إلى التاريخ المصري، خاصة ما بعد ثورة يوليو 1952، والذي شهد أول خلافات بين النظام الناصري وأحد فقهاء القانون والدستور عبدالرزاق السنهوري، الذي كان حريصا على إقامة سلطة قضائية حقيقية، تكون حكما بين الدولة والشعب، ما دعا عبد الناصر إلى حل مجلس الدولة، وكان برئاسة السنهوري، خاصة بعد أن قام بإلغاء عدد من القرارات الحكومية الصادرة من عبدالناصر نفسه والذي نجح في نهاية الأمر في إخراجه من الساحة القضائية.
ويتكرر المشهد من جديد، بعد ذلك بسنوات وتحديدا في العام 1969،عندما حاول النظام إدخال القضاء ضمن التنظيم السياسي الحاكم، وكان يسمى التنظيم الطليعي.
وعندما رفض وزير العدل عصام الدين حسونة تبني هذا الموقف تم الاستغناء عن خدماته، وتعيين محمد نصير بدلا منه، وكان من المؤيدين لانخراط القضاة في الاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الوحيد في ذلك الوقت. وتزعم نادي القضاة رفض تلك الخطوة، وفازت قائمة المعارضة بالأغلبية في انتخابات النادي برئاسة المستشار ممتاز نصار، وبعدها تمت تصفية القضاة المناوئين وإبعادهم عن النادي والسلك القضائي ذاته.
وجاء السادات «بذهب المعز وسيفه»، في تعامله مع القضاء. «الذهب» في عملية انتداب القضاة لدى الأجهزة الحكومية، والإعارات الخارجية لدول الخليج التي توفر دخلا كبيرا للقضاة، ولكن رغبة السادات في تشكيل قضاء موازٍ، مثل محكمة القيم والعيب، أعاد المواجهة بين السلطة والقضاء، خاصة مع انتقادات المستشار وجدي عبدالصمد لذلك، والمعارضة الشديدة من المستشار ممتاز نصار لاتفاقية كامب ديفيد، وكانت سنوات مبارك الثلاثين فترة كافية لمواجهات مستمرة مع القضاء.
وتصاعدت في عام 2005، بعد أن كشف القضاء حجم التزوير الذي تم في تلك الانتخابات، بالإضافة إلى رفض مشروع السلطة القضائية، الذي قدمه الحزب الوطني، وكان ذلك بداية ظهور ما تمت تسميته بتيار الاستقلال في القضاء، الذي تمسك بضرورة تمرير قانون السلطة القضائية، المعد من قبل النادي، وبعدها تم تحويل بعض المستشارين إلى التحقيق أمام نيابة أمن الدولة، ومنهم -لاحظ الأسماء- محمود مكي وهشام البسطويسي، ثم بعدها إلى لجنة الصلاحية، كما تم الاعتداء على أحد المستشارين أثناء اعتداء الشرطة على أعضاء حركة كفاية المعتصمين تضامنا مع القضاة.
كما اعتقلت الشرطة أكثر من 500 شخص من الناشطين السياسيين أثناء تظاهراتهم تضامنهم مع مكي والبسطويسي، ومنهم -لاحظ المفارقة- الدكتور محمد مرسي وعصام العريان، وشهدت منطقة وسط العاصمة مظاهرة ضخمة من نواب مجلس الشعب من المعارضة تضامنا مع القضاء.
وتنوعت المواجهات بين السلطة القضائية ونظام الدكتور محمد مرسي مع تغيير الأدوار وظهرت شخصيات مثل أحمد الزند رئيس نادي القضاء، وتهاني الجبالي عضو المحكمة الدستورية، وبدأت مع هجوم شنه أعضاء من مجلس الشعب على الأحكام الصادرة ضد مبارك ونجله ووزير الداخلية ومساعديه في قضايا قتل المتظاهرين، وتصاعدت الأزمات مع تعيين المستشار عبدالمجيد محمود، سفيرا لمصر في الفاتيكان.
وهو ما تم رفضه، فتراجع مرسي عن القرار، ولكنه أزاحه مع الإعلان الدستوري، الذي أصدره. وتضمن تعيين نائب عام جديد، وهو المستشار طلعت عبدالله.
وبدا الحديث من جديد حول قانون تم تقديمه من حزب الوسط إلى البرلمان للسلطة القضائية، والذي آثار غضب الأوساط القضائية، خاصة المادة الخاصة بخفض سن الإحالة إلى التقاعد، من السبعين إلى الستين، ما يعني الاستغناء عن خدمات حوالي أكثر من ألفي قاضٍ ومستشار، ودخلت المواجهة مجالات جديدة من خلال حصار المحكمة الدستورية العليا، والمظاهرات التي حاصرت دار القضاء العالي في وسط القاهرة، خاصة بعد أن تم تحميل القضاء مسؤولية عدد من الأحكام التي اعتبرها البعض مسيسة.
وعرقلت كثير من قرارات الدكتور محمد مرسي، ومنها حل مجلس الشعب، وعدم دستورية اللجنة التأسيسية الأولى لوضع الدستور، وصعد نجم المستشار أحمد الزند، الذي ظهر كأحد أقطاب المعارضة، ضد الدكتور مرسي، وتدخله في أعمال مؤسسة الرئاسة والسلطة التنفيذية.
ولهذا لم يكن غريبا أن يظهر كثير من القضاة والمستشارين في مظاهرات 30 يونيه ضد نظام الدكتور محمد مرسي.
ولعل فتح التحقيق مع عدد من رموز القضاء والمستشارين فيما يسمى تنظيم «قضاة من أجل مصر» يجسد حالة الصراع الدائر بين أوساط السلطة القضائية نفسها، وحالة الثأر التي تسيطر على التيار الذي أصبح بيده أمور كل شيء، مع عدم استبعاد لدور السلطة الحاكمة أو سعادتها، وغض الطرف عما يحدث، خاصة عندما تم إلقاء القبض على المستشار محمود الخضيري بتهمة تعذيب محامٍ أثناء تظاهرات 25 يناير، ومنع أحمد سليمان وزير العدل في حكومة قنديل من السفر، والقرار الأخير، باستدعاء كل من الأخوين محمود وأحمد مكي، والمستشار الغرياني، وهشام جنينة، وعدد من المستشارين في هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية للتحقيق في بلاغات اتهمتهم بالانتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين، والاشتغال بالسياسة، وإذاعة بيانات تتعلق بنتائج الانتخابات الرئاسية، وفوز الدكتور محمد مرسي.
وينسى الذين تقدموا بتلك البلاغات أن محمود مكي استقال من منصبه فور إعلان الاستفتاء على الدستور، ولم يخف معارضته للإعلان الدستوري الذي أصدره الدكتور محمد مرسي بشكل علني ومن القصر الجمهوري. كما أن المستشار أحمد مكي تقدم باستقالته عندما احتدم الصراع بين الرئاسة والسلطة القضائية، أما مسألة إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية فلم تقتصر على تلك المجموعة من القضاة، ولكن من جهات إعلامية مختلفة، ساعدها في ذلك أن فرز الأصوات كان على الهواء مباشرة وفي اللجان الفرعية والعامة، كما أن دعوة بعض القضاة إلى عودة الشرعية جزء من عمل سياسي، لم يختف أبداً من أعضاء السلطة القضائية، على مر السنوات الماضية، ومارسه العديد ومنهم أحمد الزند وآخرون.
ولكن من مجموعة المعارضة للدكتور محمد مرسي، وجماعة الإخوان المسلمين.
ولكن ماذا نقول إنها أحكام السياسة!
(عن صحيفة العرب القطرية 11 كانون الثاني/ يناير 2014)