تمثل كل من صفقة الكيميائي السوري وخطوات التقارب الأميركي
الإيراني حدثين مهمين في تاريخ المنطقة، من الممكن أن يقودا إلى تغييرات جوهرية في التحالفات بالشرق الأوسط على المديين القريب والمتوسط. ولا تقتصر هذه التغييرات على طبيعة العلاقة المستقبلية بين إيران والولايات المتحدة، ودور طهران في سياسات المنطقة، بل تتعداه إلى الدور الإستراتيجي للدول العربية الحليفة لواشنطن، وعلى رأسها
السعودية الحليف التاريخي الوثيق الذي بدأ يعبر عن غضبه لهذا التطورات.
فما أسباب الغضب السعودي؟ وما حدود هذا الغضب؟ وكيف يمكن للسعودية أن تحسن من شروطها لتمتلك هامشا أكبر للمناورة؟ لم تكن الخلافات السعودية-الأميركية وليدة التطورات الأخيرة، وإن كانت هذه التطورات ساعدت في دفع الخلافات إلى السطح."
"فقد بدأت الخلافات السعودية الأميركية مع بداية الربيع العربي، بسبب الاختلاف في موقف الدولتين من التعامل مع الثورات الشعبية العربية، فبينما أبدت الولايات المتحدة استعدادها للتعامل مع نتائج هذه الثورات كأمر واقع تحاول الاستفادة منه قدر الإمكان، اعتبرت السعودية الموقف الأميركي خذلانا للحلفاء المشتركين لكل من واشنطن والرياض.وقد تصاعد الخلاف واتخذ شكلا علنيا بعد الانقلاب العسكري على الرئيس المصري محمد مرسي بدعم واضح من الرياض وبعض حلفائها من دول الخليج العربي، في حين اضطرت الإدارة الأميركية إلى التعاطي مع الانقلاب بحذر شديد، فلا هي أبدت دعما صريحا له، ولا هي قطعت العلاقات بشكل تام مع القاهرة بسببه.
وحاولت أن تستمر بالمشي على خيط دقيق يرضى بالتعامل مع النظام الذي أفرزه الانقلاب ولكنه في الوقت نفسه يدين بعض ممارساته، ويفرض عليه عقوبات شكلية انسجاما مع القانون الأميركي الذي يفرض شكلا معينا من العلاقات مع الأنظمة التي تنشأ نتيجة للانقلابات العسكرية في دول ديمقراطية. ومثلت الأزمة السورية عنوانا آخر للخلاف الشديد بين الرياض وواشنطن، خصوصا بعد توقيع صفقة "الكيميائي" برعاية أميركية روسية وتراجع أوباما عن استخدام الخيار العسكري ضد نظام بشار الأسد على خلفية اتهامه بقصف غوطة دمشق بالأسلحة الكيميائية، وهو الأمر الذي اعتبر ضربة لجهود السعودية التي تدعم خيارا عسكريا ضد نظام بشار الأسد.ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير تمثلت في خطوات التقارب الإيرانية الأميركية، التي سببت صدمة للسعودية باعتبارها الخصم الرئيسي لإيران في المنطقة، ونظرا لأن الخيار الذي كانت تدعمه وتحرض عليه الرياض هو خيار التشدد مع طهران كما أظهرت تسريبات ويكيليكس الشهيرة.
يشير عدد من الدراسات العلمية حول السياسة الأميركية في المنطقة إلى أن واشنطن واجهت مهمة سهلة في الشرق الأوسط "بفضل" السياسة العربية والنهج السعودي والخليجي تحديدا في الرد على سياسات الولايات المتحدة.
فقد كان من المتوقع أن تنتهج الدول العربية سياسة مؤثرة على المصالح الأميركية في المنطقة، ردا على "المعايير المزدوجة" في سياسة واشنطن ودعمها غير المحدود لإسرائيل، مقابل الضغط المتواصل على العرب والفلسطينيين لتقديم تنازلات في ملف الصراع العربي-الإسرائيلي.
ولكن ما حدث فعلا هو أن الدول العربية لم "تعاقب" واشنطن على سياساتها، بل منحتها القدرة على التحرك في المنطقة بما يحقق مصالحها القومية دون الاكتراث بالرد العربي الذي لم يكن يوما مؤلما للولايات المتحدة.
لذلك من المشروع التساؤل اليوم عن حدود الغضب السعودي، وإن كان سيصل إلى درجة تجعل الولايات المتحدة تعيد حساباتها، أم سيبقى في حدود "عتب" الأصدقاء الذي لا يصلح أسلوبا مؤثرا في العلاقات الدولية."
"لقد بدأ الغضب السعودي يترجم فعليا عبر تصريحات إعلامية في البداية، كتصريح وزير الخارجية سعود الفيصل بأن العرب سيعوضون مصر عن أي مساعدات تقطع عنها بسبب الانقلاب، في رسالة واضحة للرد على القرارات الأميركية المتعلقة بقطع بعض أنواع المعونة السنوية لمصر.
كما استثمرت السعودية فرصة اختيارها عضوا غير دائم في مجلس الأمن للتعبير عن غضبها من خلال الاعتذار عن قبول هذه العضوية، بذريعة أن هذا المجلس فشل في تحقيق المهمة الأساسية له وهي تحقيق السلم العالمي، وأنه يمارس المعايير المزدوجة من خلال سيطرة القوى الدائمة العضوية فيه، إضافة إلى فشله في حل عادل للصراع العربي الإسرائيلي.
ورغم مشروعية وصحة كل هذه المبررات السعودية، من الصعب تصور اتخاذ الرياض لمثل هذا القرار لولا أنه جاء في ظل التطورات الأخيرة في المنطقة، وهو ما يجعلنا نعتقد أن اعتذار السعودية هو بصورة ما احتجاج على التعاطي الأميركي الأخير مع صفقة الكيميائي والملف النووي الإيراني.ولكن الأهم في تمظهرات الغضب السعودي هو تلك التسريبات التي نقلتها صحف إنجليزية عن مدير الاستخبارات السعودي بندر بن سلطان، التي قال فيها إن بلاده ستوقف التعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية في نقل الأسلحة الخفيفة إلى كتائب المعارضة السورية، في رد مباشر على التراجع الأميركي عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري.
والحقيقة أن هذه القرارات والتلميحات السعودية -على أهميتها- لا تمثل تهديدا كبيرا للمصالح الأميركية في المنطقة، بل إنها تبقى في الحدود التي يمكن لواشنطن أن تتعايش معها.
ولذلك فإن على السعودية إذا أرادت التأثير على السياسة الأميركية أن توسع من حدود غضبها ليصل إلى الملفات الرئيسية التي تمثل تهديدا حقيقيا للأمن القومي الأميركي، وعلى رأس هذه الملفات: أمن الطاقة ومكافحة "الإرهاب" والأمن الإقليمي ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
وبالطبع فإن الحديث عن توسيع حدود الغضب السعودي لا يعني بالضرورة الاتفاق مع أسباب هذا الغضب، ولكن الهدف منه هو البحث في إمكانية أن توسع الدول العربية المؤثرة ومنها السعودية هامش المناورة في التعاطي مع واشنطن، والامتناع عن الاستمرار بدور التماهي الذي يصل إلى حد التبعية مع السياسة الأميركية في المنطقة.
وحتى يحدث ذلك، لا بد من توافر بعض الشروط الموضوعية التي ستجعل من الغضب السعودي أكثر اتساعا وأكثر تأثيرا. تمتلك السعودية قدرات كبيرة وأوراق ضغط كثيرة يمكن أن تمكنها من جعل حالة الغضب التي تعيشها الآن أكثر من مجرد زوبعة في فنجان العلاقات بين صديقين، ولكن هذه الأوراق تحتاج إلى مزيد من الشروط التي تحسن موقف السعودية في اللعبة السياسية الآخذة بالتغير في منطقة الشرق الأوسط."
"وأول هذه الشروط المصالحة مع الشعب السعودي، إذ إن توسيع مدى الغضب السعودي يحتاج إلى دعم شعبي واسع، تستطيع السعودية الاستناد إليه ورقة قوة في مواجهة الضغوط الأميركية المتوقعة في حال تصاعد الموقف السعودي، وتنهي من خلاله المعادلة الخاسرة التي تقوم على التحالف غير المحدود مع واشنطن مقابل الحصول على دعمها لتثبيت الواقع السياسي في الرياض. ويبدو من الضروري الإشارة هنا إلى أن الموقف الأميركي الذي أغضب السعودية في ملفي إيران وسوريا استند بصورة ما إلى اعتبارات أميركية داخلية، تتعلق بالوضع الاقتصادي المتردي، وبالرفض الشعبي الأميركي المتصاعد للتدخل العسكري المباشر في أي منطقة من مناطق العالم بعد الخسائر التي تكبدتها واشنطن في "مستنقع" العراق.
وفي السياق فإن الموقف الإيراني تجاه التقارب مع أميركا ينطلق أيضا من اعتبارات داخلية، تتعلق أساسا بتراجع الوضع الاقتصادي الإيراني وتأثيراته المباشرة على المواطن في معيشته، و"بالمزاج" الشعبي الإيراني الذي أدركت القيادة المتحكمة في البلاد أنه أصبح أكثر ميلا تجاه إنهاء الصراع مع الغرب والولايات المتحدة تحديدا.
وإذا كانت أميركا وإيران تجريان تحولات عميقة في سياستهما الخارجية بناء على اعتبارات داخلية أساسا، فإن السعودية مطالبة هي الأخرى بالعودة للداخل لتقوية الموقف خارجيا.
أما الشرط الثاني لتقوية الموقف السعودي فهو التصالح مع تطلعات الشعوب العربية ومزاجها العام، خصوصا في الموقف من الصراع العربي-الإسرائيلي وقضية التحول الديمقراطي في دول الربيع العربي، باعتبار أن الانحياز السعودي للخيارات الشعبية في هذه الملفات سيؤدي إلى مصالحة تاريخية بين السعودية- كدولة- والشعوب العربية الطامحة للتغيير.
وإذا تمت هذه المصالحة التاريخية فعندها فقط ستتمكن السعودية من توسيع حدود غضبها بمواجهة الضغوط الأميركية، وستتمكن من تحقيق نفوذ إقليمي يؤهلها لتكون أحد اللاعبين المهمين في المنطقة، ولكن هذا الأمر يعتمد أيضا على إرادة السعودية فعلا في توسيع حدود غضبها، وعدم الاكتفاء بتحسينات صورية لشروط اللعبة السياسية.