في
منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم شهدت
مصر ظاهرة
المليشيات الحزبية ممثلة في مجموعات
القمصان الزرقاء التابعة لحزب الوفد، والقمصان الخضراء التابعة لمصر الفتاة. كانت
المجموعتان بمثابة ذراع شبابية خشنة لكلا الحزبين، وادعى كلا الطرفين أنه أنشأ
مجموعته في مواجهة المجموعة الأخرى، وبهدف تأديب الخصوم السياسيين. وكانت الجماعتان
تتنافسان بالخروج في مسيرات ترتدي خلالها كل منظمة قمصانها، وتمشى بالخطوة
العسكرية المنتظمة في شوارع القاهرة، والإسكندرية، كما كانتا تظهران في المؤتمرات
الحزبية كلجان حماية ونظام.
وقد
تبادلت المنظمتان الاعتداءات، حيث حاولت مجموعة القمصان الخضراء اغتيال زعيم الوفد
ورئيس الوزراء في ذلك الوقت مصطفى باشا النحاس، في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1937،
في شارع القصر العيني وسط القاهرة وقرب مجلس الوزراء، لكنه لم يصب وإن تهشم زجاج
سيارته. ووقعت اشتباكات بين أصحاب القمصان
الزرقاء والخضراء ما أسفر عن مقتل شخصين، وتعرضت مقرات مصر الفتاة للإغلاق، وبدا
أن الأمور تتجه إلى المزيد من العنف. وقد طلب الملك كما طلب الإنجليز حل تلك
التشكيلات شبه العسكرية.
الحزب المنتظر لا يحمل من الحزب إلا اسمه، فهو مجرد تجمع لقادة اتحاد القبائل ومعهم بعض كبار المسئولين السابقين في الدولة، مثل رئيس البرلمان السابق وبعض الوزراء والنواب السابقين والحاليين، ولا يحمل الحزب برنامجا أو توجها سياسيا واضحا، لكنه يركز فقط على ما اسماه بدعم الدولة، ويقصد السلطة، وهذا جهل واضح بفكرة الأحزاب التي تنشأ بالأساس للمنافسة على السلطة، وفق برنامج سياسي محدد
ومن
قبل ذلك شهد حزب الوفد نفسه معركة داخلية بين الداعمين والرافضين لوجود القمصان
الزرقاء، وهي المعركة التي كانت أحد أسباب فصل النقراشي باشا وعدد من القادة
الوفديين الرافضين من الحزب في أيلول/ سبتمبر 1937، وانتهى أمر المجموعتين بالحل
بقرار من محمد محمود باشا الذي تولى رئاسة الحكومة بعد النحاس باشا.
ما
دعانا لاستحضار هذا التاريخ هي البروباجندا الواسعة لتأسيس حزب سياسي جديد من رحم
اتحاد القبائل العربية الذي يرأسه رجل الأعمال السيناوي، إبراهيم
العرجاني، والذي
عقد اجتماعا قبل أسبوعين طرح خلاله الفكرة، ثم تبع ذلك اجتماع كبير آخر يوم 9 كانون
الأول/ ديسمبر بحضور عدد كبير من المسئولين الحاليين والسابقين، والنواب، ورجال
الإعلام، والفن، والدين، من توجهات سياسية متنوعة (يمين- يسار- وسط) داخل معسكر 30
يونيو الداعم للسلطة، وإن كان لافتا غياب العرجاني عنه!!
هذه البروباجندا أحدثت فزعا في الوسط السياسي المصري؛ كون الحزب المرتقب الذي
ينافس أحزابا سلطوية أخرى على الاقتراب أكثر من حجر السلطة يحظى برعاية سياسية
لقربه من الجهاز الأمني الأكبر في مصر، ويحظى بحاضنة اجتماعية وهي القبائل
المنضوية تحت راية الاتحاد، وحاضنة اقتصادية ضخمة يديرها العرجاني، وأخيرا يحظى
بذراع أمني، اعتمادا على مليشيات سبق أن ساندت الجيش في مواجهة الإرهاب في سيناء،
وحتى شركات حراسة مرخصة رسميا يمتلكها الصديق الأقرب للعرجاني وهو صبري نخنوخ، وهو
ما يجعل منافسة آخرين انتخابيا لهذا الحزب محفوفة بالمخاطر، وقد يدفع أحزابا أخرى
لتشكيل مليشيات للحماية أيضا، وبذلك تدخل مصر مجددا عصر
الأحزاب المسلحة أو المليشياوية!!
الحزب
المنتظر لا يحمل من الحزب إلا اسمه، فهو مجرد تجمع لقادة اتحاد القبائل ومعهم بعض
كبار المسئولين السابقين في الدولة، مثل رئيس البرلمان السابق وبعض الوزراء
والنواب السابقين والحاليين، ولا يحمل الحزب برنامجا أو توجها سياسيا واضحا، لكنه
يركز فقط على ما اسماه بدعم الدولة، ويقصد السلطة، وهذا جهل واضح بفكرة الأحزاب
التي تنشأ بالأساس للمنافسة على السلطة، وفق برنامج سياسي محدد.
هذا الحزب
سيضاف إلى أحزاب أخرى أسستها السلطة منذ العام 2014، في سياق مسعاها لضبط المشهد
السياسي وفقا لاحتياجاتها، وظهر جليا أن هناك تنافسا بين الأجهزة الأمنية في تأسيسها،
وسارعت لوضع رجالها من كبار الجنرالات السابقين من العسكريين والأمنيين في قيادتها
وعضويتها، بل إن أحد تلك الأجهزة دفع وكيله للاستقالة للتفرغ لإدارة حزب مستقبل
وطن صاحب الأغلبية البرلمانية حاليا، وقد جاء الحزب الجديد لينافس سابقيه من أحزاب
الموالاة على كعكة المقاعد البرلمانية في انتخابات 2025، حيث يسعى للحصول على ثلث
المقاعد، وهو بذلك يريد فرض نفسه مبكرا على الطاولة التي ستحدد أنصبة كل حزب من
مقاعد البرلمان، فالجميع يدرك أن المرشحين لا يفوزون نتيجة عملية تنافسية جادة، بل
وفقا للحصص المقررة سلفا لكل حزب من الجهة الأمنية التي تدير الانتخابات من خلف الستار.
الحزب
الجديد (الذي لم يتم التوافق على اسمه حتى الآن) قد يستقطب الكثيرين من كبار
المنتسبين لأحزاب الموالاة الحالية، على طريقة ما جرى حين أسس الرئيس الراحل أنور
السادات الحزب الوطني عام 1980، فسارع كل أعضاء حزب مصر الذي كان يمثل السلطة إلى
الحزب الجديد باعتباره حزب السلطة، وهو ما قد يتكرر مع حزب العرجاني الذي أتوقع
أيضا أن لا يكون هو الرئيس المباشر له، بل سيترك ذلك لرئيس البرلمان السابق، أو
لأحد الوزراء السابقين، في حين سيبقى العرجاني في موقع معنوي أعلى؛ بمثابة المرشد
الأعلى للحزب ولكل الكيانات والمؤسسات المنبثقة عن اتحاد القبائل.
المشهد الحزبي الحالي هو مشهد طبيعي في ظل حكم لا يؤمن بالسياسة، بل جاء انقلابا عليها، ورأسه يعلن أنه ليس سياسيا، ولن تقوم للأحزاب والحياة الحزبية قائمة إلا في ظل مناخ سياسي حر
رغم
كل محاولات التجريب والتزويق في الأحزاب السياسية خلال السنوات العشر الماضية إلا
أن المشهد الحزبي ظل مسدودا كئيبا، لا مجال فيه لتنافس حقيقي رغم أن كل الأحزاب
القائمة حاليا (باستثناء تلك التي جمدت نشاطها) تنتمي لمعسكر 30 يونيو، وإن كان
لبعضها مطالبات بالإصلاح الجزئي، وليس بالتغيير الكامل.
لم
تشهد مصر فترة أشد قتامة للمشهد الحزبي من هذه الفترة، كانت هناك تجربة حزبية قوية
قبل 1952 أو ما توصف بالحقبة الليبرالية، ورغم ما طال بعض أحزاب تلك الحقبة من
انتقادات إلا أنها كانت أحزابا قوية قادرة على المنافسة وتداول السلطة، ثم تم
إلغاء الأحزاب بعد 1952، واكتفي النظام الجديد في ذلك الوقت بالحزب الواحد وهو
الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي، وفي منتصف السبعينات قرر الرئيس السادات إعادة
الحياة الحزبية، وبدأت المسيرة بما سمي المنابر (منبر اليمين واليسار والوسط)
والتي تحولت لاحقا لأحزاب، تبعتها أحزاب أخرى، لكنها ظلت تجربة حزبية مقيدة حتى
ثورة يناير 2011 التي فتحت الباب واسعا للعمل الحزبي فبلغ عدد الأحزاب مائة حزب،
وتنافست بشكل حر في انتخابات البرلمان أواخر عام 2011، ثم في الانتخابات الرئاسية
2012 في مشهد مشابه للدول الديمقراطية العريقة.
المشهد
الحزبي الحالي هو مشهد طبيعي في ظل حكم لا يؤمن بالسياسة، بل جاء انقلابا عليها،
ورأسه يعلن أنه ليس سياسيا، ولن تقوم للأحزاب والحياة الحزبية قائمة إلا في ظل
مناخ سياسي حر..
x.com/kotbelaraby