تُظهر مسيرة أبي محمد
الجولاني (أحمد الشرع)
زعيم هيئة تحرير الشام، تحولات أيديولوجية وسياسية عديدة، فمن معتقد ومتشبع بفكر
السلفية الجهادية، والانتماء لتنظيم القاعدة والقتال معه في العراق، ومن ثم تأسيس
فرعها في
سوريا (تنظيم النصرة سابقا) إلى فك الارتباط بها، إلى الانفتاح المرن
وإدارة حكم شبه مدني في منطقة إدلب.
ومع عملية "ردع العدوان" التي
أطلقتها فصائل وقوى المعارضة السورية المسلحة في شمال غرب سوريا يوم 27
نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وبعد تمكن المعارضة المسلحة من السيطرة على مدينة
حلب، بات الاسم الحقيقي (أحمد حسين الشرع) الملقب بالجولاني هو المتداول في بيانات
هيئة تحرير الشام، وفي وسائل الإعلام المختلفة.
ولد زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع
الملقب بـ"الجولاني" عام 1982، ونشأ وعاش في حي المزة بالعاصمة السورية
دمشق، والتحق بتنظيم القاعدة في العراق لمقاومة الغزو الأمريكي عام 2003، وعاد إلى
سوريا بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد النظام عام 2011، ليؤسس "جبهة
النصرة" كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا، وعلى إثر الشقاق الذي وقع بين القاعدة
وتنظيم الدولة عام 2013 انفصل الجولاني بجبهة النصرة عن تنظيم الدولة الإسلامية
بالعراق، معلنا التزامه بالبيعة لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري.
لكن الجولاني أعلن فك ارتباطه بتنظيم
القاعدة عام 2016، وبات اسم تنظيمه يعُرف بـ"جبهة فتح الشام" إلى أن
استقر اسمه على "هيئة تحرير الشام"، الذي تولى منذ عام 2018 إدارة شؤون
مناطق (المحرر السوري) في إدلب، ومع انطلاق عملية "ردع العدوان" بات
الجولاني يظهر باسمه الحقيقي "أحمد الشرع الملقب بالجولاني"، وبوصفه
"قائد إدارة العمليات العسكرية للفصائل المسلحة".
ووفقا لمراقبين فإن مسيرة الجولاني مرت
بتحولات أيديولوجية وسياسية عديدة، فقد "تأرجح في ولائه التنظيمي ما بين
"القاعدة" و"داعش" (2013 و2016)، واتجاهه بعد ذلك صوب التخلي
عن تلك الولاءات، ثم بلورة جماعته بشكل مستقل عنهما، بتصورات براغماتية ومحددات
سياسية جديدة، مع المحافظة على النسق الأيديولوجي والهدف الاستراتيجي الذي يوحدهم
جميعا" حسب الكاتب والباحث المصري في الحركات الإسلامية مصطفى زهران.
وأضاف: "ومما خلصتُ إليه في دراسة
تحليلية واستشرافية لتجربة الجولاني أصدرتها قبل سنتين بعنوان "دويلة
الجولاني.. واقع هيئة تحرير الشام ومستقبلها في ظل صعود حركة طالبان
الأفغانية" الإشارة إلى أن تجربة الجولاني في سوريا تثبت قدرة التنظيمات السلفية
على التكيف بالشكل الذي يتييح لها البقاء والاستمرارية".
وواصل زهران حديثه لـ
"عربي21"
بالقول: "ففي الوقت الذي شعر فيه الجولاني أن هويته الأيديولوجية وعلاقاته
التنظيمية بكل من "القاعدة" و"داعش" قد تضر بمشروعه السياسي
في سوريا، سارع نحو الانفكاك عنهما، وعمل على بلورة مشروع ينسجم مع اشتراطات
السياق القائم، ولا يتعارض مع أهدافه على المدى الطويل، بحصره في الجغرافيا
السورية بحيث يبدو مشروعا محليا".
مصطفى زهران كاتب وباحث مصري في الحركات
الإسلامية
ورأى زهران أن تحولات الجولاني تجعل من
الصعب تصنيفه في إطار فكري محدد "فلا هو إسلامي راديكالي يتبنى رؤية أصولية
سلفية تعتمد مقاربة الولاء والبراء ومعاداة الكافرين، ولا هو إسلامي ليبرالي يؤمن
بالديمقراطية والتعددية ومهادنة الغرب، ما يجعل الكثيرين ينظرون إليه بعين الريبة
والشك، ويساورهم القلق دوما إزاء شخصيته القادرة على التحول أينما وجدت مصلحة له
في ذلك، بغض النظر عما يعلنه من
أفكار أو يتبناه من مواقف سابقة".
من جهته قال الباحث بالشأن السوري، عرابي
عبد الحي عرابي: "ثمة نوع من الالتباس في فهم الجولاني، ويرجع ذلك في تقديري
إلى عدم وجود معلومات كافية، وربما هذا ما فرضته ضرورات أمنية معينة، وكثير من
الباحثين كانوا يقرأون حالة الرجل بناء على مواقف مسبقة تجاه تنظيمات السلفية
الجهادية كـ"القاعدة" و"تنظيم الدولة" وما إلى ذلك، وهذا ما
يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار".
وأضاف لـ
"عربي21": "أما فيما
يتعلق بتحولاته الفكرية، فقد تغير فكريا بشكل واسع، وما يتعامل به الآن فيه شيء من
البراغماتية السياسية، وحتى أثناء وجوده في العراق لم يكن متوافقا تماما مع مشروع
القاعدة، وبعد مجيئه لسوريا وتأسيس جبهة النصرة، ثم وقوع الانفصام بينه وبين تنظيم
الدولة فإنه يعد من المؤشرات التي تدل على أن منهجية الرجل لا تتوافق مع منهجية
تنظيم الدولة (داعش)، ولا مع التنظيمات المتطرفة".
عرابي عبد الحي عرابي باحث بالشأن السوري
وأردف: "وما نراه الآن هو توجه إسلامي
بنكهة سورية، مثل حالة حركة طالبان، توجه إسلامي بنكهة أفغانية.. أما إدارة
الجولاني وهيئة تحرير الشام للمحرر في إدلب في السنوات السابقة فقد تبلورت في إطار
توافق مجتمعي إلى حد ما على إدارة المنطقة".
وعن إمكانية وقوع تحولات فكرية عند الجولاني
بعد سقوط النظام السوري، ذكر عرابي أنه "لن يكون ذاك التغير الكبير، وما
سيكون هو تجربة اختبار إدارة الدولة، وهذا سيكون له قراءة مختلفة، فالجولاني سيكون
جزءا من السلطة، ولن يكون هو السلطة كلها، وسيكون هناك حذر من إعادة تدوير النظام،
وحذر شديد من الثورة المضادة".
وأرجع تحولات الجولاني السابقة إلى قدرته
على "قراءة الواقع، وضرورة التعامل معه بما يمكنه من الاستمرار والوصول إلى
الهدف النهائي الذي هو إسقاط النظام، والآن العمل على بناء نظام سوري جديد"
وفق تعبيره.
وفي ذات الإطار رأى الباحث المصري المتخصص
في الحركات الجهادية والمسلحة، أحمد سلطان أن "كثيرا من تحولات الجولاني جاءت
في إطار البراغماتية السياسية، مع سعيه لتطبيق رؤيته السابقة الكامنة لديه قبل
التحاقه بتنظيم القاعدة، وربما كان ذلك من أسباب اختلافه مع الجهاديين، وبحكم
اطلاعي على الوثائق والمراسلات بين قادة التنظيم في تلك الفترة أجد أنهم عابوا
عليه ذلك، باعتبارهم يمثلون خطا سلفيا جهاديا".
وأضاف: "والحاصل أن الجولاني تبنى هذه
الرؤية المغايرة، ورأى أن الحل الذي تطرحه السلفية الجهادية التقليدية، فكرة
القتال الدائم من أجل إقامة نظام خلافة إسلامية، ومن ذلك الطريقة التي سلكها تنظيم
"داعش" حالة غير ممكنة، لذا رأى أن التصور البديل هو التماهي مع حالة
الإسلام السياسي التقليدية، مع وجود جناح مسلح بصورة أقرب ما تكون لجماعات ظهرت
على الساحة السورية كأحرار الشام في طورها الأول".
وردا على سؤال
"عربي21" إن كان
الجولاني (أو جماعته) قد قام بمراجعات فكرية أوصلته إلى تلك التحولات نفى عرابي ـ في حدود علمه واطلاعه ـ وقوع ذلك، "لكن البراغماتية السياسية كانت حاضرة
وموجودة"، لافتا إلى أن الجولاني "قدم خطابا سياسيا لا يمكن تصديره إلا
وفق تفاهمات وخطط، عمل عليها لفترة طويلة، كان يصرح خلالها بأفكاره وبرؤيته
السياسية، ولم يكن أحد يأخذ كلامه على محمل الجد إلا قلة قليلة، وكان قد تلقب
بـ"الفاتح" حينما كان جهاديا تقليديا، ومن ثم جاءت النتيجة مفاجئة
للكثيرين حينما رأوه يدخل دمشق فاتحا بالفعل"، على حد قوله.
وعن العوامل التي ساهمت في تطوير الجولاني
وتصعيده أشار إلى أن "مجموعة من السياسيين والإعلاميين الذين لهم خبرات سابقة
في دول إقليمية ساهموا بذلك، فهم تبنوا هذا المشروع السياسي، وأهلوا الجولاني
ليكون الرجل الأول في المرحلة الانتقالية، وربما أبعد من ذلك".
أحمد سلطان باحث مصري في الحركات الجهادية
ولم يستبعد سلطان أن تستمر تحولات الجولاني
عبر تقديم نفسه كـ"قائد سياسي وفق الطريقة التقليدية، كتأسيس الأحزاب وخوض
الانتخابات.. وما إلى ذلك، فقد أثبت أنه أبرع من سياسيين كثيرين، انتهجوا العمل
السياسي وفشلوا فيه، فهو استطاع أن يتحول من الجهادية التقليدية إلى البراغماتية
السياسية، ونجح في إيصال رسائل تطمينية إلى مختلف الفرقاء، وتمكن بنجاح من قيادة
فصائل المعارضة في عملية "ردع العدوان الأخيرة".
وختم حديثه بالإشارة إلى أن "مرحلة ما
بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد سيكون للجولاني فيها دور هام، وهذا لا
يعني نفي وجود ترتيبات إقليمية ودولية، يعلم بها الجولاني ويتداخل معها، ومن
المؤكد أنه سيسعى لاستثمارها وتوظيفها بما يخدم مشروعه كما فعل في محطات سابقة في
مسيرته".