تلجأ بعض الأنظمة السياسية العربية إلى
توظيف حركات الإسلام السياسي في سياق سعيها لتمرير سياساتها وأجنداتها التي يصعب
عليها تمريرها دون غطاء شعبي، تؤمنه قوى شعبية لها وزنها وثقلها في الشارع، وتمتلك
في الوقت نفسه قدرات وخبرات ومهارات لحشد الجماهير وتنظيم حركتها، وضبط ردود
أفعالها.
ووفقا لمراقبين فإن دخول حركات الإسلام
السياسي إلى معترك الحياة السياسية، ومشاركتها في المجالس البرلمانية، وتولي بعضها
لمهام تشكيل الحكومات أو المشاركة فيها، يفرض عليها تحديات جديدة، ويضعها وجها
لوجه أمام إكراهات الدولة، إذ لا تملك تلك الحركات في حالة مشاركتها في المجالس
النيابية إلا رفض بعض السياسات الحكومية أو الاعتراض عليها، بالتصويت ضدها، مع
معرفتها التامة بأن الحكومات قادرة في نهاية المطاف على تمريرها من خلال أغلبية
الموالين لها في المجالس النيابية.
من الأمثلة التي يتم استحضارها في هذا
السياق، اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل، والمعروفة باتفاقية وادي عربة، والتي
تم توقيعها يوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1994، وتم تمريرها في مجلس النواب الأردني
بموافقة 55 نائبا، ورفض 23 نائبا من بينهم 17 نائبا إسلاميا من نواب جبهة العمل
الإسلامي، وكان عدد النواب الذين حضروا تلك الجلسة 79 نائبا.
لكن الموقف الأصعب الذي قد تواجهه بعض حركات
الإسلام السياسي بعد أن يعهد إليها النظام بتشكيل الحكومة أو المشاركة فيها، يتمثل
في تعاطيها مع سياسات واتفاقيات حكومية ترفضها وتعترض عليها، تماما كما حدث مع حزب
العدالة والتنمية في المغرب، إبان تولي الأمين العام للحزب، الدكتور سعد الدين
العثماني رئاسة الوزراء، حينما كان هو الممثل للمملكة المغربية في توقيع اتفاقية
التطبيع بين المغرب وإسرائيل في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2020.
توقيع العثماني على اتفاقية التطبيع مع
إسرائيل أثار جدلا واسعا حينذاك، وقوبل بموجة غضب عارمة في الأوساط الشعبية
العربية والإسلامية، لكن العثماني دافع عن مشاركته بالقول "التوقيع على
الإعلان المشترك كان باعتباري رجل دولة، لذلك فكرت في تقديم استقالتي من الأمانة
العامة رفعا للحرج عن أي عضو في حزب العدالة والتنمية".
وما كان لافتا آنذاك أن حزب العدالة
والتنمية لم يتخذ أي إجراء بحق العثماني، بل جاء تعليق الأمين العام الأسبق للحزب،
ورئيس الوزراء الأسبق، عبد الإله بنكيران في سياق تبرير ما قام به العثماني، فهو
"أمين عام ورئيس حكومة عينه الملك، وتوقيعه مرتبط بالدولة ورئاستها، وهي من
تحدد من سيوقع.. أي كلام مع العثماني يدخل في سياق التخلي عن الدولة، وهو ما لا
يمكن أن يحدث اليوم، لأننا في معركة خارجية، ولا يمكن أن نتخلى عن الدولة.."
وفق ما قاله بنكيران.
وحسب باحثين فإن حركات الإسلام السياسي
بمشاركتها في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية تصبح جزءا من الدولة، ما يعني
أنها معرضة لإكراهات الدولة، وهو ما يفرض عليها نمطا جديدا من التحديات، قد تجد
نفسها بوجود تلك التحديات تسير باتجاه المربع الذي تريده السلطات أو يتساوق مع
توجهاتها وسياساتها، ما يستلزم مزيدا من الوعي، واهتماما أكبر بالتدابير التي
تجنبها الوقوع في فخ توظيف السلطات لها؟
وفي هذا الإطار "لا يمكن تعميم الكلام
في تحديد مدى وعي حركات الإسلام السياسي وإدراكها لسياسات توظيف الأنظمة السياسية
العربية لها في مراحل معينة، فثمة اختلاف في درجات وعيها وإدراكها لذلك، فبعضها
يستهين أو يتذاكى، وبعضها تجد نفسها مضطرة لفعل ذلك وفق حساباتها وتقديراتها
المختلفة، كالمحافظة على وجودها وحضورها ودورها ومواجهة مختلف التحديات والمعوقات
التي تعترض سبيلها" وفق الأكاديمي والباحث السياسي الأردني، الدكتور صبري
سميرة.
وأضاف: "فغالب الحركات الإسلامية من
حيث الوعي المبدئي تعي وتدرك أنها قد تستغل وتوظيف، لكن قد تغيب عن بعضها معرفة
الأبعاد الاستراتيجية أو الآثار المستقبلية لذلك التوظيف وانعكاسه عليهم وعلى
حركاتهم ودعوتهم، وعلى عامة الناس والوطن بوجه عام".
وواصل حديثه لـ
"عربي21" بالقول:
"أما مبررات الاضطرار فبعضها يظهر بالرغبة في المحافظة على مكتسبات سابقة،
ومنها الخوف من القمع أو الاستبعاد أو العزلة السياسية، لكن من مخاطر ذلك أنها إن
لم تستند إلى تقديرات صحيحة، وحسابات دقيقة فستفاجأ بتمرير سياسات كبرى داخلية
وخارجية ولكن بعد فان الأوان، وهو ما سينعكس على حضورها ونفوذها وتماسكها ونظرة
الناس إليها، واهتزاز مكانتها عند الأنظمة السياسية".
د. صبري سميرة.. أكاديمي وباحث سياسي أردني
وعن التدابير التي يلزم حركات الإسلام
السياسي العناية بها حتى تتجنب الوقوع في فخ توظيف الأنظمة السياسية لها، ذكر
سميرة عدة تدابير من أبرزها وأهمها "وجود طبقة قيادية استراتيجية مسيسة جدا،
تمتلك المعرفة والخبرة والدراية بكافة مناحي الحياة المختلفة، تضع استراتيجيات
وخطط وبرامج بناء على دراسات متأنية وعميقة يعدها خبراء ومتخصصون، ومنها
استراتيجيات ومعايير واضحة للمشاركة السياسية، مع ضرورة وأهمية وجود خبراء لتقييم
الأداء ومراجعة المسار والسياسات والقرارات".
من جهته وصف الكاتب والباحث السياسي المصري،
سيف الإسلام عيد "الحركات الإسلامية التي تقع في فخ التوظيف السياسية"
بأنها "لا تعي قدرها، ولا تعرف أهميتها المجتمعية قبل السياسية، وتفاضل بين
النجاة على الوقوف أمام الأنظمة ولو كانت ضعيفة".
وأضاف "وللمفارقة فإن هذا لم يحدث منذ
ثورات الربيع العربي إلا في الدول العربية ذات الأنظمة الملكية، كالمغرب والأردن،
ففي المغرب مرر المخزن سيناريو التطبيع المشؤوم مع العدو الصهيوني من خلال الحزب
الإسلامي الأكبر "العدالة والتنمية"، وظهر رئيس الوزراء الأسبق آنذاك
سعد الدين العثماني في مشهد تاريخي سيطارد تاريخ الحزب السياسي بأكمله وهو يوقع
اتفاق التطبيع مع العدو الصهيوني".
وأردف: "وفي الأردن حاولت جماعة
الإخوان تفادي موجة قمع كبيرة بتخفيض سقف الانتقادات والحشد في الشارع لا سيما بعد
طوفان الأقصى، ما عرضها لانتقادات من داعمي المقاومة، ومن المحسوبين عليها في
الخارج بسبب هذه المناورة، ورغم ذلك فازت جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات التي
لم تحظَ بمشاركة شعبية واسعة، لأنهم كانوا هم الخيار (الشعاراتي) الأقرب للمقاومة
من الأحزاب والحركات الأخرى، وبعبارة أخرى لم يكن على الساحة من هو أكثر دعما
للمقاومة منهم".
سيف الإسلام عيد.. كاتب وباحث سياسي مصري
وردا على سؤال
"عربي21" كيف تنجو
حركات الإسلام السياسي من فخاخ توظيف الأنظمة السياسية لها.. وكيف تتعاطى معها؟
لفت الباحث عيد إلى "عدم وجود وصفة دوائية ناجزة بهذا الخصوص، فكل حركة أو
حزب له سياق مختلف عن الآخر، وتتبدل الأهمية بحسب موقع الدولة الجيواستراتيجية،
وطبيعة النظام السياسي إن كان موغلا في القمع الاجتثاثي كالنظامين المصري والسوري،
أو يسمح بهوامش من العمل السياسي كالنظام التونسي والأردني والجزائري والمغربي".
وتابع: "إضافة لشعبية التنظيم ومدى
تماسكه، وقوة قواعدة التي تسمح له بالمناورة، فهذه العوامل وغيرها تحدد للحركة أو
الحزب الإسلامي أسس المناورة، وإدارة المواجهة لكيلا لا تقع تلك الحركات والأحزاب
فريسة نظام عربي يود اعتبارها مطية لغرضين، أولهما إنهاء شعبية تلك الحركات أو
مدخلا لقمعها" على حد قوله.
وبرؤية يغلب عليها النظر الفلسفي الكلي، رأى
الكاتب المصري الباحث في العلوم السياسية، والمتخصص في الفكر الإسلامي، الدكتور
محمد جلال القصاص أن "الإجابة عن: لماذا تم توظيف الحركات الإسلامية أكثر من
مرة.. ومن ذات الفاعل المحلي والإقليمي.. ومن ثم التساؤل عن البقاء في هذه الدائرة
والعجز عن الخروج منها، يكون بالنظر في مقولتين: الكتلة المحرِّكة، وأدوات الفعل".
وفصّل جوابه بالقول: "حين تتأمل في
المشهد وتضع مفرداته (مقولاته) الأساسية بين يديك وهي: تغييب وعي القائمين على
النهوض (تضليلهم)، وتوظيف القوى الإقليمية والدولية للحركات الإسلامية وغيرها؛
وتكرار التجارب الفاشلة، وتسأل عن السبب، تجد الإجابة في هذه الجملة: وجود كتلة
محرِّكة تمتلك أدوات فعل متعددة الأبعاد، فإذا كانت الرؤية ضرورة لرسم خارطة طريق
فإن أدوات الفعل ضرورة أيضا للتنفيذ، والأدوات تعمل مع الرؤية التي أنتجتها".
وأضاف القصاص في حواره مع
"عربي21": "وفي المشهد كتلة بشرية تمتلك أدوات فعل تستطيع من
خلالها تغييب وعي غيرها وتحريكه حيث تشاء هي، وهذه الكتلة هي نخبة النظام العالمي
والإقليمي والمحلي: فهم يمتلكون أدوات الدولة (المؤسسات الأمنية، والاقتصادية، والإعلامية،
والقضائية، وخطابا دينيا موافقا لهم)، ويمتلكون المال، ويمتلكون المعرفة (المعلومة
وأدوات نشر المعلومة)، ويمتلكون حرية الحركة بأشخاصهم وأموالهم وقراراتهم
وبضائعهم، وحرية الحركة متغير مهم قلّ من ينتبه له".
د. محمد جلال القصاص.. باحث في العلوم
السياسية والفكر الإسلامي
أما مواجهة ذلك والخروج منه، فيكون، طبقا
للباحث القصاص "بجملة من الإعدادات والتدابير من أبرزها وأهمها: العلم بأن
النظم مهما كانت قوتها، فلها دورات حياة ككل شيء على وجه الأرض، فتشيخ وتهرم ويتم
استبدالها: من داخلها (تجديد) أو من خارجها (احتلال وغلبة من العدو)، فوجود كتلة
واعية تعرف الطريق للأدوات، وكيفية التعامل معها، وتعرف مكر النخبة الحاكمة وتعرف
أن ثمة فترات ضعف وتنتظر اللحظة الفارقة هذه، ضرورة لا بد منها".
ونبَّه في ختام حديثه إلى أهمية "بناء
فرد جديد، فالفرد الصحوي لا يمتلك أكثر من الحماسة وتكوينه من جنس تكوين الفرد
العادي، لذا فهو في الأحداث لا يستطيع غير الاعتراض والشجب والصبر على البلاء
(السجن والتعذيب)، وقد يكون من المهم التخلي عن صيغة الجماعة بعد أن ظهر أنها من
أدوات المخالف، والاتجاه إلى بناء نخب متخصصة في جميع الحياة.. نخب تتعلم وتتدرب
وتمارس.. مع أهمية سلوك سبيل المرونة والمهاودة الفقهية في هذه المرحلة، وقد شرع
الله اتقاء الظالمين (إلا أن تتقوا منهم تقاة)".