تقارير

هل "التدين الجمعي" يعزز التطرف ويزعزع الانتماء الوطني؟

يمثل التدين الجمعي، للحداثويين والليبراليين، بما فيه من قيم الجماعة والأمة والحق والباطل والكفر والإيمان، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصدر خطر..
يمثل التدين الجمعي، للحداثويين والليبراليين، بما فيه من قيم الجماعة والأمة والحق والباطل والكفر والإيمان، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصدر خطر..
يشيع في كتابات ومقالات وندوات يخصصها أصحابها لمهاجمة أفكار ورؤى حركات "الإسلام السياسي"، والتي غالبا ما ينبزونها في كتاباتهم وأحاديثهم بـ"الإسلاموية" التحذير من "التدين الجمعي" لكونه ينتج محاضن تتكاثر في مناخاتها الأفكار المتطرفة والرؤى المتشددة التي تزعزع الانتماء الوطني باسم "الأممية الإسلامية"، وتتشكل في بيئاتها عقليات يقدم أصحابها انتماءهم العقدي على انتماءاتهم الوطنية.

ووفقا لمراقبين فإن هذه الاتهامات باتت في السنوات الأخيرة تُقال وتُثار بشكل مباشر، وتسعى إلى نشرها وتكريسها مؤسسات إعلامية وفضائيات وكتاب وصحفيون..، لا سيما بعد إجهاض ما أُطلق عليه "ثورات الربيع العربي"، وعودة السلطوية العربية لتمارس أساليبها القمعية بصورة أشد شراسة مما كانت عليه في سابق عهدها.

في تلك الكتابات والمقالات غالبا ما تجري المقابلة بين "التدين الفردي" بوصفه النموذج الذي ينبغي تكريسه وتجذيره، والذي يقضي على التطرف والإرهاب، في مقابل "التدين الجمعي" الذي تجب مواجهته بعد أن وظفته حركات "الإسلام السياسي" لغايات تجميع الناس وحشدهم وتحريكهم كلما دعت الحاجة إلى ذلك وفق تلك الكتابات.

ذلك النمط من الاتهامات يثير جملة من التساؤلات بشأن التدين الجمعي الذي تحرص الحركات الإسلامية السياسية على إشاعته، وتعلي من شأنه إن كان بالفعل يُنتج ذلك كله حسب ما يذكره المنتقدون؟ وهل تلك الاتهامات الموجهة للتدين الجمعي ملازمة لأفكار ودعوات الحركات الإسلامية أم إنها اتهامات مسيَّسية لصالح أجندات سلطوية معروفة؟

في مناقشته لتلك الاتهامات رأى الباحث والداعية الأردني المقيم في أمريكا، محمد الحايك أن "من السذاجة فصل هذه الاتهامات عن سياقات الحرب على تيارات الإسلام السياسي المستمرة منذ زمن."، واستدرك بالقول: "لا بل يتعدى الأمر في نظري الحرب على تلك الحركات إلى ما هو أكبر: كنقض عرى الإسلام، وتفكيك قيمه الكبرى في العقيدة والشريعة والهوية والأمة والجماعة حتى لا يتمكن من النهوض والتحرر، ويظل في دائرة التبعية أبدا".

وتابع: "والطريق إلى ذلك لا بد أن يمر عبر جملة من الأدوات والوسائل والتكتيكات من أبرزها: إسقاط جميع المرجعيات وبخاصة مرجعية الإجماع وهو ما أجمعت واجتمعت عليه الأمة في عصورها من قواطع وثوابت في فهم الدين وممارسته وتطبيقه، لصالح تدين فردي سائل وقراءات مفتوحة، فيصبح بدل الإسلام الواحد مائة إسلام وإسلام كلها صحيحة وكلها مشروعة".


                                     محمد الحايك.. باحث وداعية أردني مقيم أمريكا

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ومن تلك التكتيكات محاربة الإصلاح الاجتماعي والسياسي لصالح تكريس الاستبداد واحتكار السلطة والثروة.. وحجتهم في ذلك أن الحركات الإسلامية تتستر بالدين لتغيير أنظمة الحكم، وكذلك طمس الهوية الإسلامية لصالح "الأنسنة" أو الهوية على أساس القيم الإنسانية المشتركة التي تتجاوز الدين أو يكون الدين شأنا فردانيا خاصا وهذا هو جوهر العلمانية".

ولفت الحايك إلى أن من تلك التكتيكات ما يمكن التعبير عنه بـ"استهداف فكرة الأمة الواحدة لتكريس القطرية كحالة نهائية تكون معها الدعوة إلى الأمة خيانة للوطن، أو ولاء خارجيا يعاقب عليه القانون.". مضيفا أن "هذه أبرز معالم الوصفة التي يسوقها الحداثويون العرب اليوم باسم نقدهم "للإسلامويين".

وأردف: "يمثل التدين الجمعي، للحداثويين والليبراليين، بما فيه من قيم الجماعة والأمة والحق والباطل والكفر والإيمان، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصدر خطر، وهاجسا كبيرا لمشروعهم، لذا نراهم يتوسلون بمحاربة هذه المفاهيم والمبادئ الإسلامية بحجج واهية، ويتعللون بأخطاء معينة ويضخمونها، والهدف الحقيقي ليس التصويب ولا النصيحة، بل محاولة الهدم والتخريب لحصون الإسلام من داخلها"، وفق رأيه.

وفي ذات الإطار، اعتبر الأكاديمي المغربي، الباحث في الفكر الإسلامي، الدكتور حفيظ هاروس "تلك الاتهامات بأنها لا تعدو أن تكون من جملة الأحكام النمطية العامة التي يروجها خصوم الحركات الإسلامية السياسية، وذلك لافتقارها إلى التأسيس العلمي، ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة آفات اعتورت حكمها هذا".

وتابع: "من أبرز تلك الآفات كونه حكما عاما، لا يفرق فيه أصحابه بين الحركات الإسلامية السياسية المختلفة، بل يضعونها جميعها في سلة واحدة، فلا فرق مثلا بين الجماعات التكفيرية والجهادية وبين الحركات والأحزاب الإسلامية المشاركة في العملية السياسية في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ويعتبرون موقفها من العنف واحدا، فإذا أعوزهم الدليل لإثبات ذلك زعموا أن الحركات الإسلامية السلمية تستبطن في أدبياتها عنفا كامنا سيظهر متى تهيأت له الظروف المناسبة".


                         د. حفيظ هاروس.. أكاديمي مغربي باحث في الفكر الإسلامي

وأردف هاروس لـ"عربي21": "كما أن ذلك الحكم يستند إلى الأفكار والمقولات النظرية ويغفل عن الوسائل العملية التي تتوسل بها هذه الحركات لتحقيق تلك الأفكار والمقولات، ومن ذلك فكرة الخلافة الإسلامية التي يحسب هؤلاء النقاد أنها ستكون على شاكلة الخلافة الإسلامية الأولى، بينما يؤكد الكثير من قادة الحركات الإسلامية أنهم يستلهمون روح هذه الخلافة المتمثلة أساسا في الشورى والعدل، بينما الأشكال لن تخرج عن هيئة الاتحادات السياسية والاقتصادية المعاصرة".

ونبّه إلى أن ذلك النمط من الأحكام "يتغاضى عن عموم المراجعات في الفكر والسلوك عند العديد من جماعات الإسلام السياسي بخصوص قضايا العنف، والمشاركة السياسية، وشمولية العمل السياسي، والانتماء الوطني وغيرها، كما هو شأن المراجعات عند التنظيمات الجهادية في مصر، أو حركة النهضة في تونس، أو حزب العدالة والتنمية في المغرب وغيرهم".

وعن السبب الذي يجعل من هذا النقد حكما نمطيا عاما وغير مؤسس أرجع الأكاديمي هاروس ذلك إلى "كونه محكوما في الغالب بالخصومات السياسية والتحيزات الأيديولوجية، وبعيد عن شروط النقد العلمي الذي يتقصد الحق لذاته".

من جانبه رأى الأكاديمي الأردني والقيادي الإسلامي، الدكتور إبراهيم المنسي أن "مصطلح التدين الجمعي مصطلح غير صائب، إذ لا يمكن جعل الخلق على مسطرة واحدة من التدين، لكن بلا شك هناك مسطرة لأصول الدين وثوابته ولا أقول التدين، ومن أطلق مصطلح التدين الجمعي أراد أن يظهر الدعاة والحركات الإسلامية وكأنها وصية على الخلق، بينما أصل الدعوة إلى الله قائم على قوله تعالى (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)".

وتابع: "فالتدين متباين بين الناس، والدين واضح في أصوله وثوابته وعباداته، فهناك من المسلمين من أصاب أكثرها وهناك من كان متوسطا فيها، وهناك من كان مُقلا، وهناك من باعد بينه وبينها كثيرا، فتباين الناس بالتدين، وهذا أمر طبيعي، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان التباين في صحابته، إذ من بين أكثر من 120 ألف صحابي لم يُذكر سوى 2455 صحابيا، حتى من بين هؤلاء القلة الذين ذُكروا لم يبرز منهم في ذاكرة الناس سوى المئات، وكل الصحابة عدول وقدوات".


                                د. إبراهيم المنسي.. أكاديمي أردني وقيادي إسلامي

وقال المنسي في حديثه لـ"عربي21": "إن اتهام الحركات الدعوية أنها تسعى لتحقيق التدين الجمعي الذي "صنع التطرف" ليس منطقيا، ولا يستطيع تحقيقه أي منهم لتباين طبيعة الخلق، ومن سعى لذلك قلة شقوا على أنفسهم وتنطعوا بأحكام الدين، وقسوا على الخلق حتى استطاع خصوم الدعاة الولوج لاتهامهم من تلك النافذة إما لأغراض تنافسية أو اغراض سياسية".

وعن الاتهامات الموجهة للحركات الإسلامية بأنها تنتج أفرادا متطرفين ومتشددين، أوضح المنسي أن "نتاج الحركات الإسلامية المعتدلة من الدعاة هو نتاج مميز في أكثر الأحوال"، متسائلا: "كيف لا وقد تجدهم يحثون أفرادهم على الاشتباك الإيجابي مع مجتمعاتهم، فتجدهم في الجامعات ينخرطون في الاتحادات الطلابية والأندية الطلابية، ويتنافسون على خدمة زملائهم الطلبة.. وكذلك في ميدان العمل العام ينخرطون في العمل النقابي والتطوعي والإغاثي، ويشاركون في الأحزاب والبرلمان لخدمة مجتمعهم بما يقدرون عليه".

بدوره، أكدّ الأكاديمي والداعية السعودي، الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي أن "التدين الجمعي جزء مهم من الدين، فالأمة الإسلامية واحدة وإن تباعدت البلدان وتفرقت الأجساد، والمؤمنون إخوة، والمسلم للمسلم كالبنيان، وعموم رسالة النبي للبشرية جميعا، وللإنس والجان وهذا أصل من أصول الدين، لا ينكره أو يعارضه إلا من كان جاهلا أو مغرضا، أو من ذوي التوجهات السياسية والفكرية التي لها مواقف مخاصمة أو معارضة للدين أو متخوفة منه".


                              د. سعيد الغامدي.. أكاديمي وداعية سعودي

وأضاف في تصريحاته لـ"عربي21": "لقد تم استخدام الكتاب والمدونين من العلمانيين والليبراليين، ومؤسسات إعلامية لإشاعة مثل تلك الاتهامات، محاولة منهم لحصر المسلمين في إطار حدود معينة، وجعلهم يؤمنون بالحدود التي اصطنعتها اتفاقية سايكس بيكو، بعد أن تم انتزاع فلسطين منها، وهذا ما صنعته الدول الاستعمارية في عالمنا الإسلامي، وأغلب الدول في عالمنا العربي وكلاء عن الاستعمار يقومون بأشنع مما قام به الاستعمار".

وختم حديثه بالقول: "لذلك نجدهم يحرصون حرصا شديدا على إبعاد فكرة عالمية الإسلام، وإخوة الدين، والترابط بين المسلمين، ولا يريدون من الشعوب الإسلامية أن تتفاعل مع قضايا المسلمين ومآسيهم خارج أقطارهم، بما يمليه عليهم دينهم من القيام بواجب الدعم والتكاتف والتعاون، ونصرة إخوانهم في الدينن لكن الأمة ستعود إلى مجدها وقوتها، وستحيي تلك المعاني والقيم وتتمسك بها كما كانت عليه من قبل".
التعليقات (0)