عصر يوم الأحد الماضي (19 أيار/ مايو 2024) انتشرت الأنباء عن اختفاء طائرة
من طراز بيل 212 أمريكية الصنع؛ تحمل على متنها الرئيس
الإيراني السيد إبراهيم
رئيسي ووزير خارجيته حسين عبد اللهيان ووفد مرافق لهما، ظل الخبر متداولا على رأس
عناوين الأخبار العالمية حتى اليوم التالي، إذ تم الإعلان تدريجيا عن احتمال
سقوطها وتحطمها ثم عدم معرفة موقع سقوطها ثم احتمال عدم العثور على أحياء أو ناجين،
ثم دعوة الدول لتقديم المساعدة ثم الإعلان عن الوصول إلى مكان السقوط والعثور على
الحطام وما تبقى من جثث الضحايا.
هذا الترتيب في نشر الأخبار يثير الشك والريبة ويجعل المتتبع الحصيف يدرك
أن شيئا ما قد جرى، وبالتالي يستهلك المسئولون في إيران بعض الوقت لالتقاط بعض
الأنفاس لحين إخراج رواية متماسكة عن الحادث.
إبراهيم رئيسي ليس مجرد رئيس عادي لجمهورية إيران بل هو أحد أهم أركان
الدولة العميقة في إيران وأعني بها دولة الثورة الإيرانية، فالرجل تدرج في المناسب
القضائية منذ عام 1980 أي بعد عام من اندلاع الثورة هناك، ووصل في مرحلة ما إلى
منصب نائب رئيس السلطة القضائية،
هذا الترتيب في نشر الأخبار يثير الشك والريبة ويجعل المتتبع الحصيف يدرك أن شيئا ما قد جرى، وبالتالي يستهلك المسئولون في إيران بعض الوقت لالتقاط بعض الأنفاس لحين إخراج رواية متماسكة عن الحادث
وكُلف يوما ما بأوامر من الإمام الخميني مباشرة بملف
الإرهاب وأصدر أحكاما قاسية على المخالفين للثورة باعتبارهم أعداء للثورة ولله
وللوطن، ثم إنه تولى منصب المدعي العام في عموم البلاد ورئيسا للمحكمة الخاصة
برجال الدين ثم رئيسا لمؤسسة العتبة الرضوية المقدسة. وقد خسر الانتخابات الرئاسية
عام 2017 لصالح الرئيس حسن روحاني ثم فاز في انتخابات 2021؛ في انتخابات وصفت بأنه
تمت "هندستها" لكي يفوز بها رئيسي -على ما يبدو- تقديرا لخدمته للنظام
في إيران.
رجل بهذا التاريخ العريض وبهذا السجل من العمل لخدمة الثورة الإيرانية يصعب
تصديق أنه لا يحظى بالرعاية الكافية والعناية المطلوبة كرئيس لدولة أصبح لها شأن
في المنطقة والعالم، خصوصا بعد طوفان الأقصى وقيامها ولأول مرة في التاريخ بقصف
الكيان الصهيوني ردا على قصف الكيان لقنصلية إيران في دمشق وقتل أحد أكبر القيادات
العسكرية هناك.
يصعب تصديق رواية الطقس والظروف المناخية والتضاريس، وهي رواية مألوفة
ومكرورة في مثل تلك
الحوادث خصوصا حين يتعلق الأمر بمقتل قادة كبار من رؤساء
وأمراء ووزراء، صحيح أن إيران تحت الحصار وتعاني من عدم إمكانية تحديث معداتها
العسكرية ولكن طائرة الرئيس عادة ما تحظى باهتمام وعناية وتجد الدول الوسائل التي
تضمن سلامتها، وإلا فكيف حافظت إيران على سلامة كبار مسؤوليها منذ اندلاع الثورة
وحتى اليوم.
صحيح أن إيران تحت الحصار وتعاني من عدم إمكانية تحديث معداتها العسكرية ولكن طائرة الرئيس عادة ما تحظى باهتمام وعناية وتجد الدول الوسائل التي تضمن سلامتها، وإلا فكيف حافظت إيران على سلامة كبار مسئوليها منذ اندلاع الثورة وحتى اليوم
اللافت للنظر والذي يدحض نظرية السقوط هو أن طائرتين مرافقتين لطائرة
الرئيس الإيراني قد عادتا بسلام ولم نسمع عنهما شيئا، وأزعم أن لدى قادة الطائرتين
الكثير من المعلومات التي كان من الممكن أن تختصر الوقت منذ سقوط الطائرة وحتى الإعلان
عن موقع الحطام، ولكن يبدو أن الغموض كان سيد الموقف وهكذا يكون في مثل هذه
الحالات في بلاد عدة في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا.
لو نظرنا للتاريخ فسوف نجد أن سقوط الطائرات وخصوصا الحربية منها في إيران
أمر متكرر منذ 1981، حين سقطت طائرة عسكرية من طراز هرقل سي 130 وكان على متنها 77
من العسكريين، ثم سقوط طائرة قائد القوات الجوية منصور ستاري في عام 1994، وفي عام
2005 تحطمت طائرة من طراز داسو فالكون 20 كانت تقل قائد القوات البرية في الحرس
الثوري الإيراني أحمد كاظمي الذي لقي حتفه، وفي عام 2021 سقطت طائرة تقل وزير
الرياضة حميد سجادي الذي نجا من الحادث وقتل نائبه إسماعيل أحمدي؛ وهو رجل الحرس
الثوري في وزارة الرياضة.
هناك حجة قوية حول تأثير الحصار على أسطول الطائرات الإيرانية وهذا صحيح،
ولكن إسقاط الطائرات لا يقتصر على الدول المحاصرة، فقد أسقطت طائرات لدول غير
محاصرة مثل طائرة الرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق التي أُسقطت في 17 آب/ أغسطس
1988، وكان قد اصطحب معه السفير الأمريكي خشية أن يغدر به الأمريكان فتم إسقاط
طائرته قُتل معه السفير الأمريكي. وقد أفاد محمد إعجاز الحق نجل الرئيس ضياء الحق
في مقابلة مع وكالة الأناضول في 4 آذار/ مارس 2020 أنه تم رش غاز الأعصاب في قمرة
القيادة ما شل حركة الطيارين إضافة إلى وجود متفجرات في صناديق للمانجو كانت على
متن الطائرة.
وهنا يتبين لنا أن اسقاط الطائرات أمر لا يمكن الكشف عنه في وقته، بل قد
يستغرق الأمر عقودا حتى يكشف عنه النقاب أو يتجرأ أحدهم على النطق بشهادته، والسبب
بالطبع معروف.
في الحالة الإيرانية هناك ثمة أسباب قد تؤدي بنا إلى أن الطائرة قد أسقطت
ومنها الصراعات الداخلية والخارجية، فإيران دولة دينية يحكمها ملالي متدينون
يحكمون حكما مطلقا كما يرى الإمام أو المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وهناك حصار
وتململ شعبي، وقد حدثت مظاهرات بسبب الفقر والجوع وحرية التعبير، ولكن هل الغضب
الشعبي قادر على الوصول إلى إسقاط طائرة الرئيس؟ هذا أمر يحتاج إلى من يعلن عن مسئوليته
عن هذا الفعل وإلا سنحتاج لزمن طويل حتى نصل إلى حقيقة أنه تم إسقاط الطائرة بفعل
معارضين أو متمردين أو آخرين من داخل النظام.
كما أن دول الجوار المباشر تسعى لزعزعة أمن إيران الداخلي بإيعاز وتعاون مع
دول الإقليم ومن خارجه، بسبب امتلاكها للسلاح النووي أو اقترابها من ذلك عمليا، أضف
إلى ذلك أن رغبة الكيان الصهيوني في إيذاء النظام الإيراني والنيل منه غير خافية،
والكيان يحاول بقدر الإمكان تصدير صورة أنه قادر على الوصول إلى العمق الإيراني
بطريقة أو بأخرى، ولكن في السياسة الدولية هناك سقوف متعارف عليها وغير مسموح
بتجاوزها لأن التجرؤ على إسقاط طائرة الرئيس مهما بلغت درجة العداء مع إيران هو
أمر لا تسامح فيه ويهدد بحرب شاملة في المنطقة.
سوف تظل التفاصيل سرا لعقود، والغموض الذي يحيط بالموضوع هو في حد ذاته يمثل سببا قويا للشك في رواية "الظروف المناخية والتضاريس الجغرافية" هي السبب
لقد عجزت أمريكا أو قررت عدم الكشف عن ملابسات مقتل الرئيس الأمريكي جون
كينيدي عام 1963، ولا يزال الغموض سيد الموقف رغم ما صدر من تقارير أمنية وقيام هوليوود
بصناعة عدة أفلام ومسلسلات عن الحادثة، ولكن الملابسات لا تزال طي الكتمان ببساطة
لأن الأمر يتعلق بدولة عظمى.
كما لم يتم الكشف عن حقيقة وملابسات سقوط طائرة هليكوبتر عسكرية مصرية في
واحة سيوة بالقرب من الحدود المصرية الليبية في آب/ أغسطس 1981، كانت تحمل على
متنها وزير الدفاع المصري آنذاك الفريق أحمد بدوي وبرفقته 13 من قادة القوات
المسلحة معظمهم برتبة لواء، والمثير هو نجاة طاقم الطائرة بالكامل وسكرتير الفريق
أحمد بدوي. وقد ثارت شائعات تتهم الرئيس الراحل أنور السادات بتصفية الفريق أحمد
بدوي ورفاقه، ولكن وكالعادة تصعب معرفة ذلك لأن الأمر يخص المؤسسة العسكرية وهي
صندوق معتم لا يسمح للضوء بالمرور داخله. حتى مقتل الرئيس السادات وسط حراسه؛ لم
نعرف حتى اليوم بشكل رسمي كيف تمكن الجناة من تنفيذ العملية رغم كل الحراسات
والترتيبات العسكرية الضخمة التي تصاحب الرؤساء في مثل هذه المناسبات.
حتى لو فرضنا أنه تم إسقاط طائرة الرئيس الإيراني فسوف تظل التفاصيل سرا
لعقود، والغموض الذي يحيط بالموضوع هو في حد ذاته يمثل سببا قويا للشك في رواية
"الظروف المناخية والتضاريس الجغرافية" هي السبب.