ما يجري من صحوة
الجامعات الغربية غير المسبوق في تاريخ
هذه الجامعات، صعب على التفسير، بعد أن عاث اللوبي الصهيوني لعقود، فسادا وتخريبا وسيطرة
عليها، من خلال بثه الدعايات المغرضة تثبيتا لروايته وسرديته في اغتصاب
فلسطين، فأتى
العدوان الصهيوني على غزة اليوم، ليفكّ ويُبطل السحر الذي نسجته الدعايات الصهيونية
على مدى ذلك التاريخ، ولتنتقل هذه الصحوة التي شملت جامعات عامة وخاصة اعتقل مئات من
الطلبة والأساتذة خلالها، إلى الجامعات الفرنسية، وعلى رأسها جامعة السوربون، ثم إلى
أستراليا وبريطانيا وغيرها.
اللافت أن تنطلق هذه المظاهرات والاعتصامات، ثم الاعتقالات
التي طالت الطلبة، من جامعات أمريكية عريقة كهارفارد وجورج واشنطن وييل وغيرها، رغم
حرص اللوبي الصهيوني الشديد والطويل منذ بدء العدوان الصهيوني على غزة على تغيير رؤساء
جامعات واستبدالهم بآخرين، لما رأى في مواقفهم وسياساتهم تأييدا ودعما للحق الفلسطيني.
وكان لافتا أيضا انضمام الكادر التدريسي لجامعة جورج تاون للمتظاهرين، حيث خرج الأساتذة
ينددون بالممارسات القمعية الصهيونية في غزة، ويطالبون بوقفها، وكفّ أمريكا عن تسليح
قتلة الشعب الفلسطيني.
المثير للدهشة والاستغراب كان أن يُلف تمثال جورج واشنطن
بالعلم الفلسطيني، وقد لاحظ كثير من الخبراء والباحثين منذ انطلاقة العدوان على غزة،
أن جبهات الحرب الأخيرة ليست كجبهات حروب العرب مع
إسرائيل في السابق، فالجبهات اليوم
لم تعد مقتصرة على جبهات القتال، بعد أن امتدت إلى جبهات الأكاديميين والسوشيال ميديا، حيث برز بوضوح تراجع وهزيمة السردية الصهيونية لأول مرة في المعاقل الغربية.
عادت الجامعات الغربية لتلعب دور تطبيق الشعارات التي طالما رفعها الغرب وهي الحرية وحقوق الإنسان، بعد أن رأت الشعوب الغربية أن هذه الحقوق مهدورة ومسحوقة في غزة، حين عكستها شاشات التلفزة في غزة وحتى قبل غزة، مما عرّى الساسة والسياسيين الغربيين وشعاراتهم، وكشف تغيرا مزاجيا غربيا تجاه الكيان الصهيوني
كل هذا
بالتأكيد نتيجة عمل تراكمي طويل وعريض على امتداد العالم، كل ينفق من سعته، وكل ينفق
من مخزونه التخصصي. وهنا لا بد من التذكير بأن أول ما ظهرت المظاهرات المليونية كان
عام 2003 يوم نددت المظاهرات بالعدوان الأمريكي على العراق عام 2003، لتتجدد اليوم
بزخم أقوى وأضخم وأوسع وأعمق على مستوى النخب وذلك ضد العدوان الصهيوني على غزة، وهو
ما ينبئ بأن التسونامي الحقيقي سيكون أقوى أو أخطر مستقبلا، إن تجاهل الغرب مطالب المتظاهرين
والمحتجين.
اللافت أن يطالب رئيس مجلس النواب الأمريكي؛ الرئيس جو
بايدن بتعبئة الحرس القومي لاقتحام الجامعة لوقف ما وصفه بمعاداة السامية إن استمر
الحراك الطلابي. وقد تلقى كل رؤساء الجامعات الأمريكية تهديدا بالفصل إن فشلوا في إخماد
هذه التحركات، ولكن على ما يبدو فإن الطلبة مصممون على المضي قدما في تحركاتهم بعد
أن رفع بعض طلبة كولومبيا شعارات ضد رئيس مجلس النواب الأمريكي "جونسون.. أنت
مقرف"، على الرغم من أن رئيسة الجامعة من المنحازين للكيان الصهيوني، وجامعتها
العريقة هذه لها شراكات مع كبرى الجامعات في العالم، بالإضافة إلى علاقة مميزة مع الكيان
الصهيوني، وهو الأمر الذي يعني أن الغليان الطلابي والجامعي والأكاديمي وصل إلى درجة
الانفجار.
ذكرتنا هذه التحركات الطلابية بحراكات الطلبة سابقا في
فيتنام تحديدا، وكذلك بحراك طلبة إندونيسيا في إسقاط سوكارنو، أو بدور الجامعات العربية
في الربيع العربي، وبالتالي عادت الجامعات الغربية لتلعب دور تطبيق الشعارات التي طالما
رفعها الغرب وهي الحرية وحقوق الإنسان، بعد أن رأت الشعوب الغربية أن هذه الحقوق مهدورة
ومسحوقة في غزة، حين عكستها شاشات التلفزة في غزة وحتى قبل غزة، مما عرّى الساسة والسياسيين
الغربيين وشعاراتهم، وكشف تغيرا مزاجيا غربيا تجاه الكيان الصهيوني، فقد كشف مركز استطلاع
الرأي الأمريكي (بيو) أن أكثر من ستين في المائة من الشباب الأمريكي ذي الشريحة العمرية
بين 18- 29 يعارض إسرائيل وممارساتها القمعية في غزة.
هذا الحراك له ما بعده، وآفاقه ومخاطره على الأمن القومي لن تكون بسيطة، وإنما مركبة ومعقدة. لقد أرسل الطلبة، جيل المستقبل، بمظاهراتهم أن السردية الإسرائيلية ماتت وانتهت، وأن خديعة السياسيين الغربيين لشعوبهم انتهت كذلك، وأن الطلبة عرفوا مدى الحضور الصهيوني في السياسة والاقتصاد الأمريكي ولو كان على حساب أمريكا
نحن نشهد اليوم ربيع الجامعات العالمية، وهي رسالة لكل
القوى المستبدة بأن زلزال الطلبة قادم، وإن تأخر، ولن يُنبئ أو يخبر عن موعده، كحال
الزلازل الطبيعية، ورسالة بالمقابل إلى الجامعات العربية لدى أنظمة الليكود العربي
واستبدادها؛ أن الخطر ماثل أمامكم، فتداركوا أمركم، ولا تظنوا للحظة أن صمت الشعوب
ونخبها دليل على الموافقة والرضا، فإن الصمت لا يعني العجز، ولكن الصمت هو عبارة عن
تراكم معرفي وغضب، لينفجر دفعة واحدة، فالربيع العربي لم ينته، وإن كان قد خمد، ولكن
موجته الثانية كما عودتنا كل ثورات العالم ستكون أقوى من موجته الأولى.
باختصار فإن أمريكا اليوم أمام لحظة تاريخية، تُعيدها إلى
الوراء خمسين عاما، يوم انتفضت جامعاتها مطالبة بوقف الحرب في فيتنام، فتدخل الحرس
القومي والمخابرات الأمريكية للتجسس على الطلبة واعتقالهم وقتل بعضهم من أجل فض الاعتصامات،
بأوامر من الرئيسين جونسون ثم نيكسون، ولكن في تلك المرة كان الحدث داخليا، لكن اليوم
الحدث خارجي وهو فلسطين، وإن كان يمس في جوهره صلب ونواة السياسة الأمريكية لتعلقها
بالكيان الصهيوني، ويمس بشكل مباشر كل القوى الأمريكية المعنية الحزبية والسياسية والعسكرية
والقوى الناعمة.
ولذا، فإن هذا الحراك له ما بعده، وآفاقه ومخاطره على الأمن
القومي لن تكون بسيطة، وإنما مركبة ومعقدة. لقد أرسل الطلبة، جيل المستقبل، بمظاهراتهم
أن السردية الإسرائيلية ماتت وانتهت، وأن خديعة السياسيين الغربيين لشعوبهم انتهت كذلك،
وأن الطلبة عرفوا مدى الحضور الصهيوني في السياسة والاقتصاد الأمريكي ولو كان على حساب
أمريكا وحاضرها ومستقبلها..