إن محاولة الكُبّار إدماج أصحاب الأفكار والمشاريع في منظوماتهم
التسلطية دون أفكارهم ومشاريعهم قديمة كقدم الإسلام، فذلك الذي أراده زعماء دار
الندوة في مكة حين عرضوا على رسول الله الملك على أن يترك ما كان يدعوهم إليه من
الهداية فرفض عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وواصل طريق مقاومة قريش
وأحلافها وإعداد العدة التي أُمر بها إلى
أن صادفته السنن الغلابة فغلب بها.
وهي محاولة قديمة في الجزائر كذلك، منذ عهد الاستعمار وتوجهاته
العنصرية من خلال برلمان "الأنديجين" الجزائريين إلى أن قضت الثورة على
عبث الفرنسيين.
من يعتقد من الإسلاميين الذين يشتغلون في هذا الزمن في البلدان التي
تتاح فيها هوامش العمل السياسي بأن انتقال الفكرة الإسلامية إلى الدولة لتحقيق
نهضة الأوطان والاستئناف الحضاري للأمة يكون بسخاء من الأنظمة في العالم
العربي
فهو واهم. إن هؤلاء الحكام حينما يفسحون المجال للمساحات المحدودة من العمل
السياسي إنما يريدون إدماج بعض إطارات التيار الإسلامي في منظومتهم لتسخير النزهاء
منهم كتقنوقراط مفيدين لتحريك قطاعات محددة بعيدا عن السلطة، أو لإفساد ضعاف
النفوس منهم ليكونوا معاول لتدمير الفكرة والمشروع، أما الفكرة الإسلامية فإن لهم
تجاهها عقد مركبة لا يسمحون لها بالعبور أبدا، وتتمثل عقدهم فيما يلي:
ـ هم يعلمون بأن الفكرة الإسلامية فكرة
قوية وحاضرة بعمق في المجتمعات الإسلامية وأن من يحملها ـ كائنا من كان ـ مؤهل
للوصول إلى الحكم وإحداث التغيير وهم متشبثون بالسلطة ومتعها وغوايتها فلا يقبلون
أي فكرة تنافس على الحكم، سواء كانت إسلامية أو غيرها.
ـ هؤلاء الحكام لهم تكوين علماني ـ سواء
أعلنوا ذلك أم أخفوه ـ ولهم حساسية مفرطة من وجود الإسلام في الساحة السياسية،
ويظهر ذلك بوضوح في تصرفاتهم وخطابهم وفي تحرشاتهم بالمتدينين الذين يؤمنون بالدور
الحضاري للإسلام.
ـ ليست لهم ثقافة إسلامية وليست لهم
معارف كافية للدور الحضاري للإسلام، كما أنهم ليست لهم معرفة كافية بتاريخ الحضارة
الغربية وتطورات علاقاتها بالدين، وأبعاد ذلك، ورغم هذا الجهل المركب والفراغ
المعرفي الكبير هم مستكبرون، كحال العائل
المستكبر - ليست لهم قابلية للاستفادة من
غيرهم.
لا يتوقع أن تمنح الأنظمة الحاكمة في بلادنا للإسلاميين الفرصة ليكونوا شركاء في الحكم بالكلام المعسول والمنمق والمدح لشخوصهم والوعود الواهمة، فقد جربنا هذا الطريق ورأينا آثاره المدمرة، ولم نتعاف إلا بعد أن تجنبناه، وأسوأ ما في الأمر حين يتسلل الخوف أو الطمع أو الفساد للقادة، أو يدفعهم ضعفُهم وعدمُ الثقة في أنفسهم ليكونوا ألعوبة في يد الحكام.
ـ كثير منهم فاسدون ويستغلون السلطة
لصالح عائلاتهم وعصبهم وشبكاتهم على حساب أوطانهم، وهم يعلمون بأن الفكرة
الإسلامية فكرة جادة أساس وجودها مُدَافَعة الفساد وتحقيق المصلحة العامة، فلذلك
لا يتقبلون ـ هم وعصبهم ـ من يسعى لتطهير البلدان من الفساد بصدق وفاعلية، وهم في
هذا كحال من قال: ((وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم
مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون))سورة الأعراف آية:٨٢
ـ كثير منهم يخضعون للإرادة الخارجية،
مهما كانت أساليبهم المخادعة للشعوب في هذا الشأن، وهم يعلمون بأن الفكرة
الإسلامية فكرة سيادية لا تقبل المساومة لصالح الأجانب من أجل الكرسي على حساب
المصالح الحقيقية للبلاد والعباد.
ـ هم على العموم أنظمة فاشلة، لم تنجح في
تحقيق التنمية وتطور الأوطان، وهم يعلمون بأن الفكرة الإسلامية قادرة على تحقيق
نهضة البلدان وهي الشرط الأساسي للاستئناف
الحضاري للأمة الإسلامية حين يحملها قادة جادون وأكفاء ونزهاء يمشون في التاريخ
على نحو ما بينه علماء التاريخ والعمران والحضارة من المسلمين وغير المسلمين،
ولذلك هم يعتقدون بأن الفكرة الإسلامية إذا وصلت للحكم سيطول وجودها فيه بسبب
نجاحها وخدمة الناس، فلا يمكن أن تُعطى لها الفرصة. وهم في هذا متحالفون مع قوى
الاستعمار المعادية بالأصالة لعودة الإسلام للحكم بخلفيات تاريخيّة وحضارية
ومصلحية.
لكل هذا، لا يتوقع أن تمنح الأنظمة الحاكمة في بلادنا للإسلاميين
الفرصة ليكونوا شركاء في الحكم بالكلام المعسول والمنمق والمدح لشخوصهم والوعود
الواهمة، فقد جربنا هذا الطريق ورأينا آثاره المدمرة، ولم نتعاف إلا بعد أن
تجنبناه، وأسوأ ما في الأمر حين يتسلل الخوف أو الطمع أو الفساد للقادة، أو يدفعهم
ضعفُهم وعدمُ الثقة في أنفسهم ليكونوا ألعوبة في يد الحكام.
إن ما يريده الحكام أن يأخذ بعضُ الإسلاميين بعضَ المناصب كأشخاصٍ
ليندمجوا في منظومة الحكم دون فكرتهم.
إنه لا توجد وسيلة لانتقال الفكرة إلى الحكم إلا بميزان قوة يسمح
بذلك، فيقبل الحكام الشراكة أو التداول لأسباب مختلفة تتعلق في آخر المطاف بميزان
القوة. فلو اشتغل الإسلاميون بالوصول إلى
الحكم، واستعجلوا المناصب أكثر من اهتمامهم بصناعة ميزان قوة يجعلهم فعلا أقوياء
وأقدر على خدمة فكرتهم وبلدهم ولو بعد حين - في إطار فهم تطورات السنن - فما هم في
هذه الحالة إلا نخب تشتغل من أجل الجاه أو
الرياء أو المصلحة الخاصة، أو المجد الشخصي وقد دلت التجربة بأن عاقبة هذا المسار
مخزية.
ومن هذا المنطلق على القادة الإسلاميين الاندماجيين الجدد أن يصارحوا
أنفسهم ومناضليهم ومجتمعاتهم: ماذا يريدون؟ الفكرة أم السلطة ولو على حساب الفكرة؟
إذا كانوا يريدون الفكرة فعليهم بالصبر والإعداد وطول النفس فإن دور الفكرة سيأتي
حتما، فإن لم يحدث ذلك في وقتهم فلا يفسدوا على من يأتي بعدهم، وأمارات النجاح التي خضناها في تجربتنا التي لم
تكتمل بعد في السنوات العشر الماضية في حركة مجتمع السلم بالجزائر تدل على ذلك.
فإن استعجلوا وأرادوا السلطة فعليهم أن يعلنوا بأنهم تركوا الفكرة والمشروع وأن
أحزابهم صارت تجمعات مصالح تتنافس على السلطة ضمن منظومة الحكم السائدة مثلما هي
أغلب الأحزاب، ولا حرج عليهم في ذلك، فهناك أحزاب وطنية محافظة فيها قادة متدينون
كأشخاص ولكن همهم السلطة ولا يعملون للفكرة والمشروع الإسلامي، وهؤلاء أقرب إلى
النجاة مع الله، إذ لم يخادعوه سبحانه، وأكثر مصداقية عند الناس إذ هم واضحون في
توجهاتهم. إنما الذي تكون عاقبته وخيمة الذي يخدع الفكرة التي يدعي حملها، حدث ذلك
بشكل مدهش في الجزائر وخارج الجزائر، فما اتعس من يكرر
التجارب الفاشلة.