في الصراع السياسي والعسكري بين الدول، ثمة فارق مهم جدا بين من
يُقدم على تغيير قواعد الاشتباك وبين من يُجبر عليها: في الحالة الأولى تمتلك
الدولة القدرة العسكرية والسياسية التي تؤهلها للخروج من الستاتيكو السياسي
والعسكري القائم، أو من قواعد الاشتباك السائدة والمتفق عليها ضمنيا بين طرفي
الصراع، بينما لا تمتلك الدولة في الحالة الثانية هذه القدرات، واضطرارها إلى دخول
المستوى الجديد من الصراع ليس إلا لخفض الأثمان الاستراتيجية إذا هي لم تقم بذلك.
ضمن هذه المقاربة يمكن النظر إلى الضربة
الإسرائيلية على القنصلية
الإيرانية في دمشق، ثم الرد العسكري الإيراني بمئات المُسيرات والصواريخ من
الأراضي الإيرانية تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة.
تغيير قواعد الاشتباك
بقصفها مبنى دبلوماسي رسمي لإيران في دمشق غيرت إسرائيل قواعد
الاشتباك السائدة منذ سنوات بينها وبين إيران (معركة بين الحروب)، وهي إذ تفعل
ذلك، فإنما فعلته بعد دراسة عميقة للمتغير الحالي في المنطقة والمتمثل بحرب غزة من
جهة، والدعم الغربي غير المحدود لإسرائيل من جهة ثانية، وهما متغيران يدفعان صناع
القرار في إيران ـ من وجهة نظر إسرائيلية ـ إلى التفكير مليا في توجيه ضربة عسكرية
مباشرة لإسرائيل إن قامت الأخيرة بتغيير قواعد الاشتباك وضرب أهداف إيرانية رسمية
بشكل مباشر.
الخيارات الإيرانية
كان أمام إيران خياران:
ـ المحافظة على قواعد الاشتباك مع ما يعنيه ذلك من خسائر كبيرة، ليس
على المستوى المعنوي والشعبي فحسب، بل أيضا على المستوى الاستراتيجي، لأنه ينهي
نهائيا مقولة الصبر الاستراتيجي الإيرانية، ولأنه سيدفع إسرائيل إلى المضي قدما في
تغير قواعد الاشتباك.
ـ رد عسكري، ولكن الردود العسكرية تكون دائما على مستويين: الأول
ضعيف يحمل رسائل سياسية وإن جاءت عبر السلاح، بينما يكون الثاني قويا يندرج ضمن
معادلة الردع القاسي.
اختارت إيران الرد الضعيف لأربعة أسباب رئيسية:
الأول، تفاوت القدرة العسكرية بينها وبين إسرائيل، إذ أن رد عسكري
إيراني قوي يؤذي إسرائيل سيُقابل بالضرورة برد عسكري، وسيؤدي إلى فتح باب حرب
طويلة بين الجانبين، لن يكون بمقدور إيران تحملها في ظل دعم أميركي هائل لإسرائيل
ودعم غربي تكشف بوضوح منذ أحداث السابع من أكتوبر العام الماضي في محيط غزة.
الثاني، لن يستطيع الاقتصاد الإيراني المأزوم وهو في مرحلة التعافي
المبكر من تحمل حرب بهذا المستوى، الأمر الذي قد يؤدي إلى رفع مستوى الغضب الشعبي
الموجود أصلا نتيجة التدهور الاقتصادي.
يمكن فهم أن إسرائيل لن ترد على الرد الإيراني مباشرة بقصفها مواقع داخل إيران، أو إعادة تكرار سيناريو القنصلية في دمشق، بل ستقوم بعمليات عسكرية مباشرة في سورية ضد الميليشيات التابعة لها، أو عمليات غير مباشرة داخل الأراضي الإيرانية دون أن تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنها (تفجيرات أصفهان المحدودة أمس)، فمثل هذه العملية داخل الأراضي الإيرانية تهدف إلى توجيه رسالة سياسية مفادها أن إسرائيل قادرة إن لزم الأمر في الوصول إلى العمق الإيراني.
الثالث، ليس لدى إيران رغبة في أن تؤدي الحرب إلى نشوء تحالف
إسرائيلي عربي ـ كان وما يزال مضمرا وبحدود معينة ـ واضح من شأنه أن يؤدي إلى
إضعاف مكامن القوة الإيراني في البلدان العربية (العراق، سورية، لبنان، اليمن).
الرابع، عدم رغبة صناع القرار في طهران بحدوث قطيعة سياسية مع
الولايات المتحدة، خصوصا بعد الانفراجات الجزئية التي حصلت بين الدولتين خلال
الأعوام الماضية فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وتخفيف العقوبات الاقتصادية
الأميركية والغربية على إيران.
في المجمل، كان الرد الإيراني ضعيف الأثر، انعكاسا لقدرة إيران
المحدودة فيما يتعلق بإسرائيل، ويمكن القول إن التجارب الطويلة بين الجانبين خلال
العقود الماضية من جهة، وقصف القنصلية الإيراني في دمشق والرد الإيراني، لا تخدم
القضية الفلسطينية، بقدر ما تخدم المصالح الإيرانية في المنطقة، فإذا لم تستطع
إيران ـ التي تحمل في شعاراتها محاربة إسرائيل بسبب احتلالها لفلسطين ـ من استثمار
لحظة فارقة (ضرب القنصلية) لفرض واقع جديد، فإن كل استراتيجيتها سقطت أمام هذا
الامتحان.
وما قول البعض بأن إيران ألزمت إسرائيل بالعودة إلى قواعد الاشتباك
السابقة (المعركة بين الحروب)، وأن الصواريخ الإيرانية والمُسيرات كشفت منظومات
الصواريخ الإسرائيلية الاستراتيجية، وقول آخرين من أن إسرائيل كانت ضعيفة لدرجة
أنها لجأت إلى دول عربية وغربية للمشاركة معها في إسقاط الصواريخ الإيرانية، ما
قول كل هذا إلا هراء بالمعنى الاستراتيجي، وإن كان ثمة حقيقة واضحة لا يبدو أن
العرب قادرين على فهمها أو استغلالها، وهي أن عملية "طوفان الأقصى) والرد
العسكري الإيراني كشفا حالة الخوف والهلع الإسرائيلية العالية جدا.
ولا يتعلق هذا الخوف بطبيعة الحال بسبب ضعف إسرائيل على المستوى
العسكري، بل ناجم من الشخصية الإسرائيلية التي ترتعب جدا من أي محاولة عربية أو
إسلامية للنهوض، أو أية محاولة لتوجيه ضربة لها.
من هنا، يمكن فهم أن إسرائيل لن ترد على الرد الإيراني مباشرة بقصفها
مواقع داخل إيران، أو إعادة تكرار سيناريو القنصلية في دمشق، بل ستقوم بعمليات
عسكرية مباشرة في سورية ضد الميليشيات التابعة لها، أو عمليات غير مباشرة داخل
الأراضي الإيرانية دون أن تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنها (تفجيرات أصفهان المحدودة
أمس)، فمثل هذه العملية داخل الأراضي الإيرانية تهدف إلى توجيه رسالة سياسية
مفادها أن إسرائيل قادرة إن لزم الأمر في الوصول إلى العمق الإيراني.
كما أن إسرائيل غير قادرة على الدخول في أزمة مع الولايات المتحدة
غير الراغبة إطلاقا بنشوء حرب واسعة في الشرق الأوسط، حفاظا على مصالحها التي
أصبحت خلال السنوات السابقة متمثلة بثلاث مستويات:
الأول، استمرار تدفق النفط بسلاسة إلى العالم الغربي.
الثاني، استمرار طرق الملاحة البحرية في عملها دون تهديد.
الثالث، الإبقاء على الوضع الراهن السياسي في البلدان العربية عبر
استقرار النظم الاستبدادية والحيلولة دون نشوء نظم ديمقراطية.