عندما قامت
إيران بتوجيه ضربات صاروخية
ومسيرات للكيان الصهيوني منذ بضع أيام، اختلفت وجهات النظر فيها وفي جدواها
وفحواها، وهل كانت مسرحية أم حقيقة؟ وهل كانت مضرة للكيان أو مفيدة له محليا
ودوليا؟ نقاشات عدة دارت حول الموضوع، ولكن كانت هذه الضربات كاشفة أيضا على عدة
مستويات، لارتباطها بالعدو الصهيوني الذي لا يزال يمارس فجره وعدوانه على غزة
وفلسطين.
هناك فئات معذورة في مواقفها من ضرب سفارة
إيران في دمشق، أو من رد إيران على ذلك، وما ظهر في تعليقاتهم بأن ما تم هو محض
مسرحية، وأن إيران لا تقل شيطنة عن الصهاينة والأمريكان، وهؤلاء معظمهم من دول
نالها أكبر الأذى والضرر في بلدانهم، كسوريا واليمن والعراق، من كيانات محسوبة على
إيران، فهؤلاء موقفهم وشعورهم مقدر، ومفهوم تماما.
لكن هذه الضربات كانت في الحقيقة كاشفة لعدة
أمور، لم تكن لتنكشف لولاها، وليس ذلك لتأييدنا أو رفضنا الضربات، بل هو بالنظر
لما نتج عنها على مستويات تتعلق بنا كأمة إسلامية، وجمهور عربي، بغض النظر عن
مكاسب الدول وخسائرها مما حدث من حيث الماديات والمعنويات، لكنها كانت كاشفة
لزوايا أخرى، من المهم أن نقف عليها، ونمعن فيها النظر.
أول ما كشفته: كم التسرع في الحديث، فيمن
يحسن السياسة ومن لا يحسنها، وفيمن يمتلك أدوات التحليل ومن لا يمتلك، ومن المعلوم
أن من يحلل عليه أن يكون لديه أدوات التحليل السياسي، من حيث امتلاك المعلومة
الحقيقية، ثم يربط هذه المعلومات الجديدة بما لديه من قبل، ويشبك بينها وبين
المؤتلف والمختلف منها، ثم يدلي بدلوه، سواء كان متحدثا بالحقائق التي لديه، أو
محللا لها، إن كان من أهله.
إن أحداث غزة فضحت وكشفت الموقف العربي والغربي على حد سواء، فجاءت هذه الضربات لتؤكد هذا الفضح، فمنذ الإعلان عن الضربات، وقبل وصولها للكيان، خرجت جل الدول الغربية تندد، بل تبارت بعضها في صد الضربات، كفرنسا وأمريكا وإنجلترا، بل أعلن وزير خارجية ألمانيا: أن إسرائيل لم تكن بحاجة لدفاعنا عنها، وكانت قادرة وحدها على صد الضربات. أي: أن دعمهم لها هو تبرع منهم!!
لكن ما تم هو أن جل الناس تحولوا لمحللين
سياسيين، ومنهم من خلط الأماني والرغبات بالواقع والمتاح، سواء مع إيران أو ضدها،
وهذا يعني: أننا بحاجة لمراجعة أنفسنا من حيث المصادر التي نتلقى منها المعلومات
والتحليلات، وبحاجة إلى درجة من التريث والتعقل فيما يلقى إلينا من أخبار، وما
وراءها من تحليلات، فإعطاء الناس عقولها وأفئدتها لمواقع التواصل الاجتماعي،
وتحويل مصادر الفهم إلى الناشطين السياسيين، وليس إلى المحللين السياسيين فهذه آفة
كشفتها الضربات.
ومن أخطر ما كشفته ضربات إيران، ليس في
صفوفها ولا في صفوف الكيان الصهيوني، بل كشفت من في صفوفنا ممن ليسوا معنا، ولا مع
قضايانا، وهم محسوبون علينا أنظمة تمثلنا، أو تحكمنا، وليسوا سهاما تصد الأذى عنا،
بل هم سهام في كنانة العدو الصهيوني، ودرع وقاية له من أي أذى يصيبه، أو يحتمل أن
يصيبه، فقد استعملت دول وقواعد في هذه الدول، لصد هذه الضربات، ليس حماية
لأجوائها، بزعم السيادة والحفاظ على سيادتها كما يزعم بعض المتعصبين لهذه الأقطار
دون النظر لحقيقة الأمر.
إن حقيقة الأمر: أن الكيان استخدم هذه
الأجواء، مرة حين ضرب سفارة إيران في دمشق، ومرة أخرى حين أرادات إيران الرد، بأن
استعملها الكيان نفسه، وكان الأفراد والشعوب من قبل يقلبون في صفحات الكتب ليعرفوا
من الخائن في بلادهم، ومن المتعاون مع العدو؟ وتظل المعلومات حبيسة المصادر
والوثائق، وربما احتجنا إلى انتظار سنوات رفع الحظر عن الوثائق في الدول العدوة،
أو المحتلة.
وقد ذكر كيرباتريك مدير مكتب صحيفة نيويورك
تايمز بالقاهرة، وقد ظل فترة في مصر منذ قبيل ثورة يناير وحتى ما بعد انقلاب 2013
بسنوات، وذكر تفاصيل مخيفة ومرعبة في آن واحد، لأنها تبين كيف أن حمى حدود مصر
مستباح صهيونيا بلا أي منازعة، وقد ذكر تفاصيل عن مسيرات جاءت من
إسرائيل إلى
سيناء، للقضاء على جماعات جهادية فيها، ولعلنا ننقل كلامه بتفاصيله في مقال قادم
إن شاء الله، وهي شهادة توثيقية من صحفي محايد، وقد خرجت أصوات وقت كتابة تقاريره،
تكذبه، وأدى ذلك إلى إخراجه من مصر، وعدم السماح له بالدخول إليها، فقادم بإصدار كتابه
بالإنجليزية، والذي ترجم مؤخرا في دار جسور، بعنوان: في أيدي العسكر.
كنا نقول: إن أحداث غزة فضحت وكشفت الموقف
العربي والغربي على حد سواء، فجاءت هذه الضربات لتؤكد هذا الفضح، فمنذ الإعلان عن
الضربات، وقبل وصولها للكيان، خرجت جل الدول الغربية تندد، بل تبارت بعضها في صد
الضربات، كفرنسا وأمريكا وإنجلترا، بل أعلن وزير خارجية ألمانيا: أن إسرائيل لم
تكن بحاجة لدفاعنا عنها، وكانت قادرة وحدها على صد الضربات. أي: أن دعمهم لها هو
تبرع منهم!!
في الصباح الباكر للضربات، عاد الكيان
الصهيوني للتنكيل بوحشية لأهل غزة، وخرست كل الأصوات التي كانت ترعد وتبرق وتهدد
وتتوعد منذ ساعات لإيران، لإقدامها على الرد، صمتوا جميعا أمام ما يجري منذ ستة
أشهر في غزة، ليزداد الكشف ورفع الستر عن الموقف العربي والغربي معا، فالعرب الذين
قاموا يدفعون الضربات عن الكيان، لم يكلف واحد منهم خاطره في أن يصرح برفض العدوان
على غزة، أو السماح بالمساعدات لغزة، في ظل تواطؤ بين وواضح من النظامين العربي
والغربي.
لم يعد أحد الآن بحاجة إلى طول النفس في
النقاش لإثبات عمالة أنظمة عربية، وتواطئها البين والواضح مع الكيان الصهيوني،
فالأحداث منذ ستة أشهر تفضح، ولكن كانت الضربات التي أطلقتها إيران للكيان
الصهيوني، ورقة التوت التي سقطت عن عورة هذه الأنظمة. وهناك ما كشفته الضربات في
نواحي أخرى، لمن يتأمل ويحلل فيما وراء الأحداث، ونحن لم تخرج لنا بعد ما خفي
واستتر في هذه الأحداث.
[email protected]