يوميات الشهر الفضيل مرت كالأحلام في بلاد
الثلج، والحرية وتعدد الأعراق والثقافات. الثلج الأبيض يغطي أرصفة
الطرقات ويغطي الشوارع والحارات ومداخل المنازل والمتاجر وسطوح الفضاءات العامة
والعمارات. برد الثلوج المتهاطلة يلسع أوجه المارة إلا أن نكهة شهر
رمضان في هذه
الربوع غمرت قلوب الصائمين وأهل القبلة بالدفء والرحمة والحميمية والتغافر.
ترى الكنائس منتشرة في أهم المواقع الحضرية
وفي كل مكان سواء كانت مهجورة أو مطروقة إلا أنها الرمز التاريخي الدائم لعطش
الروح المتطلعة للسماوات. العمل اليومي طوابير الاستهلاك والحاجات والخدمات. حشود
الناس المنتشرين أمام ضفاف الأنهار والبحيرات، والمتمترسين وراء المناظير
والكاميرات لرصد اللحظات البديعة لغروب الشمس. الألوف المؤلفة لزوار شلالات
النيغارا يتأملون عظمة التدفق الأبدي للأنهار والبحيرات واللحن المتجدد للتخلق
الهادر للماء. وصياح الناس أمام هذا المشهد المتكرر كالاطفال، يسبحون بعظمة الخالق
تسبيح قطرات الماء وهم لا يدرون. أليس هذا طقس تخاطر مع الله بين الكائن والكينونة
وإن لم يدركوا ابعاده المباشرة إلى حين.
أناشيد الهاليلويا هاليلويا بأعياد الميلاد
وأعياد الفصح في بقايا أهازيج الكنائس وأروقة محطات المسافرين وفي الحارات.. وهي
ما تبقى من استغاثة النبي عيسى عليه الصلاة والسلام حين صدح بها لتشق الأزمنة والأكوان
يا إلهي. ذلك النداء العظيم الذي سجله المخرج الأمريكي "ميل جيبسون " بلفظه العربي الفصيح
في شريطه السينمائي الشهير "الأم المسيح".
يا الهي نداء يضيء كل دور الصائمين هنا في
كندا غروب كل يوم يصدع فيه الآذان إيذانا بموعد الإفطار والارتباط الملحمي بأمل
المستضعفين وآلام المحرومين. هذا عمار ابن ياسر وهذا أبو ذر الغفاري وهذه سمية
وأسماء ذات النطاقين وعمر وعثمان وعلي يتجددون كل قرن وكل يوم في ملحمة التحرر من
الجوع والعطش والهوى بجميع المعاني المادية والمعنوية إيذانا بفجر متجدد للبشرية.
ومنذ أن نزلت الآية العظيمة في مفتتح سورة
النساء "يأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰاحِدَةٖ
وَخَلَقَ منها زوجها وَبَثَّ منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا ألله الذي تتساءلون
به والأرحام إِنَّ ألله كَانَ عليكم رقيبا" والبشرية تخوض غمار معاركها من أجل
وحدة الجنس البشري والتحرير من الأسر والتحرر من الاغلال.
لقد كشفت حرب غزة في فلسطين عن غلبة نزعة التوحش الغرائزية لدى الكيان الصهيوني والقوى الدولية التي ساندته معتمدة على وحشية القوة العارية التي دمرت المدارس والمستشفيات وقتلت الأطفال والنساء ومضت في إبادة الرصيد البشري والمعنوي والبنيوي للشعب الفلسطيني الأعزل والمحتل.
في بحر القرن التاسع عشر بعد أن اسقر منجز
الثورة الصناعية تمخضت أزمة الوعي الأوروبي عن ثورة متدفقة عنيفة ضد حروب الكنيسة
وعهود الظلام الغابرة املا في بناء حداثة وثورة علمية من اجل الانسان. حصلت فتوحات
ومنجزات عظيمة باسم الحداثة والعلم. إلا أنها سرعان ما أبانت عن حدودها حينما بقي
التوحش الكامن في الباراديغمات الجديدة للبشرية محركا لمراجل الشر متغولا بالغرائز
كما كان يفعل في الأزمنة الغابرة، ولكن ليحتل قارة العقل والعقلانية هذه المرة
ويخضعها للتوحش من جديد.
الحروب العالمية والأنظمة الفاشية والمحارق
الشيطانية من الإنسان للإنسان أدت في ظرف النصف الأول للقرن العشرين الى أكثر من
مائة وخمسين مليونا من القتلى والضحايا والتدمير المنهجي. وهو ما جعل الفلاسفة
يتساءلون عما يحصل للبشرية وعن مدى تحررها من توحشها.. أثر الحرب العالمية الثانية
تم التبشير الثوري بالميثاق العالمي لحقوق الانسان في اعلان 10 ديسمبر 1948.
وامتدت زمنا من الهدنة مع تكافئ قوى الحرب رغم احتدام معارك الحرب الباردة بين
المعسكرين الرأسمالي والشيوعي.
انتهت تلك الحروب بسقوط جدار برلين وانهيار
الاتحاد السوفياتي وانطلاق عهد من القطبية الأحادية وتم الإعلان عن انتصار مبهر
وابدي للعالم الحر. توجه صمويل هانتنغتون بكتاب منهجي حول صراع الحضارات كما توجه
المنظر الأمريكي فرانسيس فوكوياما بتنبؤات حول نهاية التاريخ سرعان ما تراجع عنها.
وانطلقت موجة أخرى من الحروب العبثية في يوغسلافيا القديمة وأفغانستان والعراق.
الى ان خلص الفيلسوف الألماني واحد اباء مدرسة فرانكفورت النقدية " يورغين
هابرماس " الى ان العالم اغرق في ماديته ونسي الغيب وذلك في محاوراته مع ميشال
فوكو وأيضا مع اب الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان "بينيديكت السادس عشر".
ما هو شكل الإغراق في المادية؟ إنه تحكيم
النزعة الغرائزية في العقل والعقلانية
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن
شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَىٰ مَا هَ يَا دَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . (البقرة 185)
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ / البقرة 183
شهر رمضان هو الموسم السنوي للتدرب على تحكم
العقل في الغرائز وإعلاء كرامة الإنسان ورسالة الاستخلاف على نوازع التوحش والشر.
لقد كشفت حرب غزة في فلسطين عن غلبة نزعة
التوحش الغرائزية لدى الكيان الصهيوني والقوى الدولية التي ساندته معتمدة على
وحشية القوة العارية التي دمرت المدارس والمستشفيات وقتلت الأطفال والنساء ومضت في
إبادة الرصيد البشري والمعنوي والبنيوي للشعب الفلسطيني الأعزل والمحتل. وجاء كل
ذلك على حساب العقل والتعقل والعقلانية وسمو الروح التراحمية، في تحد صارخ
لانسانية الانسان ووحدة الجنس البشري وتعد واضح على مواثيق التعاقد الدولية لحقوق
الانسان التي سجلها الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948والمواثيق الافريقية لحقوق
الانسان والشعوب وإعلان الثورة الفرنسية لحقوق الانسان والمواطن منذ سنة 1789.
وحين يفقد الناس عقولهم يأتي شهر رمضان
لعقلنة العالم وإعادة الأمور إلى نصابها. وإعادة العقل والروح الإيماني إلى
مكانتهم في ضبط الغرائز وتنظيمها.
وحق لأمة بها مركزان للطواف أن تحتفي بحيوية
رسالتها الخاتمة رحمة للعالمين. طواف حول المكان خلال مناسك الحج ومؤتمره الأممي من كل عام. وطواف حول
الزمان في شهر رمضان الذي أنزل فيه القران وصدح به الناس في كل زمن وفي كل آن.