في ظل حالة اليأس والعجز
الإسرائيلي بزعامة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين
نتنياهو عن تحقيق نصر عسكري على حركة حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة
بعد أكثر من ستة أشهر من حرب الإبادة رغم الدعم الأمريكي المتهور لإدارة الرئيس جو
بايدن، لجأت إسرائيل إلى خطوة تصعيدية غير مسبوقة تهدف إلى استدراج الولايات
المتحدة الأمريكية ودفعها إلى الانخراط في حرب مع
إيران، فقد جاء القصف الإسرائيلي
للمجمع الدبلوماسي الإيراني في دمشق، والذي أسفر عن مقتل قائد كبير في الحرس
الثوري الإيراني والعديد من المسؤولين الإيرانيين الآخرين بالإضافة إلى أربعة
مواطنين سوريين على الأقل، كخطوة تصعيدية
بعمل عدواني مغامر خارج حسابات حرب الظل والوكالة، فاستهداف مجمع السفارة
الإيرانية في سوريا يشكل هجومًا مباشرًا على إيران.
لم يكن الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق
مجرد خطأ حسابي وسوء تقدير، ولا مجرد تعبير استعلائي عن حالة الغطرسة والرغبة في
الانتقام فقط، بل يقع الهجوم في إطار مغامرة تسعى إسرائيل من خلالها إلى توسيع
دائرة الحرب وجر الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية للخروج من الوضع الذي أصبح فيه
هدف إسرائيل المعلن المتمثل بـ"تدمير حماس" و"استعادة
الرهائن" بعيد المنال، وبعد أن خسرت إسرائيل سردية الضحية وخرافة الدفاع عن النفس وتكشفت الطبيعة الاستعمارية
الاستيطانية وسياسة التفوقية العرقية اليهودية، وملاحقة الكيان الاستعماري
لارتكابه جريمة الإبادة الجماعية، فقد أفضت جرائم الحرب والإبادة الإسرائيلية
الواضحة للعيان إلى وضع الكيان
الإسرائيلي في حالة من العزلة العالمية،
ومع مرور الوقت أخذ الدعم الأميركي التلقائي المعتاد يتزعزع بشكل واضح، وتنامت
الخلافات الشخصية بين بايدن ونتنياهو، وبات من الواضح أن توسيع نطاق الحرب هو هدف
شخصي لنتنياهو وأمله الوحيد للنجاة من المشكلات السياسية والقانونية التي تنظره.
عندما اتخذت إسرائيل قرار استهداف القنصلية
الإيرانية في دمشق في 1 نيسان/ أبريل 2024، كانت تعلم أن لا خيار أما إيران سوى
الرد بهجمات صاروخية وعبر مسيرات، حيث قال المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي في 2
نيسان/ أبريل 2024، إن إسرائيل "يجب
أن تُعاقب، وسوف تُعاقب"، وقد توعد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بالانتقام
من إسرائيل.
لم يكن الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق مجرد خطأ حسابي وسوء تقدير، ولا مجرد تعبير استعلائي عن حالة الغطرسة والرغبة في الانتقام فقط، بل يقع الهجوم في إطار مغامرة تسعى إسرائيل من خلالها إلى توسيع دائرة الحرب وجر الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية للخروج من الوضع الذي أصبح فيه هدف إسرائيل المعلن المتمثل بـ"تدمير حماس" و"استعادة الرهائن" بعيد المنال،
وبناء على طلب إيران، عقد مجلس الأمن التابع
للأمم المتحدة اجتماعا استثنائيا في 2 أبريل/نيسان، حيث طلب الممثل الإيراني إدانة
المجلس للهجوم الإسرائيلي وتعهد بأن إيران تحتفظ "بحقها الأصيل والمشروع في
تقديم رد حاسم، في إطار القانون الدولي"، و"ميثاق الأمم المتحدة"،
وأعربت عدة دول عن قلقها بشأن القانون الدولي وحماية المنشآت الدبلوماسية. إذ تنص
المادة 22 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 على ما يلي: تكون
لمباني البعثة حرمة.
ولا يجوز لوكلاء الدولة المضيفة دخولها إلا
بموافقة رئيس البعثة. ويقع على عاتق الدولة المضيفة واجب خاص يتمثل في اتخاذ جميع
الخطوات المناسبة لحماية مباني البعثة من أي اقتحام أو ضرر، ولمنع أي تعكير لسلام
البعثة أو المساس بكرامتها، ولذلك فإن الهجوم العسكري الإسرائيلي خرج عن سياق حرب الظل التقليدية والتي كانت تقوم به
إسرائيل بانتظام من خلال ضربات جوية ضد أهداف إيرانية واغتيالات لأفراد عسكريين
إيرانيين في سوريا، لكن الهجوم على قنصلية
يمثل تصعيدًا كبيرًا، وضع القيادة الإيرانية في موقف لا يمكن إزاءه التزام الصمت والتمسك
بمبدأ الصبر الاستراتيجي، لكنها في نفس الوقت لا ترغب في خوض حرب شاملة.
منذ اللحظات الأولى من الهجوم الإسرائيلي
على القنصلية الإيرانية في سوريا،
نأت إدارة بايدن بنفسها عن الغارة الجوية
الإسرائيلية، مؤكدة أنه ليس لديها علم مسبق بالعملية، وقال المتحدث باسم مجلس
الأمن القومي جون كيربي: "ليس لدي أي شيء آخر لأقوله عن الضربة في دمشق،
باستثناء أننا لم نشارك فيها بأي شكل من الأشكال"، وقد أبلغت إيران إدارة
بايدن أنها إذا انخرطت في الدفاع عن إسرائيل إذا شنت طهران ضربة انتقامية، فإنها
ستعتبر الولايات المتحدة هدفًا قابلاً للتطبيق أيضًا، وبعد أربعة أيام من الغارة
الجوية الإسرائيلية، وقع أكثر من عشرة من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين على رسالة
تتهم إدارة بايدن بتنفيذ “استراتيجية استرضاء” مع إيران، وعلى الرغم من العمل
العسكري المتزايد الاتساع والمتصاعد منذ بدء حرب غزة، أصرت إدارة بايدن على أن
الحرب لا تزال محصورة في إسرائيل، على الرغم من الهجمات التي تشنها إسرائيل في
سوريا ولبنان؛ وعلى الرغم من الهجمات المتكررة التي تشنها قوات الحوثيين في اليمن
والضربة الانتقامية التي أعقبتها؛ وعلى الرغم من الهجمات والردود ضد القوات
الأمريكية في العراق وسوريا والأردن. توصف الضربات التي تشنها الولايات المتحدة (وشركاؤها
في التحالف) دائمًا بأنها تستهدف المنظمات والميليشيات "المدعومة من إيران".
لا ترغب الولايات المتحدة الأمريكية بالتورط
في حرب مباشرة مع إيران، ولا يمكن أن ينجح نتنياهو بجر بايدن إلى حرب إقليمية
شاملة، فالولايات المتحدة تعلم جيداً الكلفة الهائلة لهذه الحرب، وهي تسعى إلى
احتواء وردع إيران، ففي كانون الثاني/ يناير، قُتل ثلاثة جنود أمريكيين بطائرة بدون
طيار انتحارية أطلقتها ميليشيا مدعومة من إيران على قاعدة أمريكية في الأردن تسمى
البرج 22. وكان هناك أكثر من 150 هجومًا على القوات الأمريكية في الشرق الأوسط منذ
بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، وقد اكتفت القيادة المركزية الأمريكية، وهي القيادة
القتالية في الشرق الأوسط التابعة للبنتاغون بتوجيه سلسلة من الضربات على أهداف
مدعومة من إيران في جميع أنحاء المنطقة، فضلاً عن شن هجمات بحرية وجوية في اليمن
وما حولها، دون أن تشن أي هجمات على إيران، وكان موقف إدارة بايدن واضحاً ومحدداً باستمرار، وهو أنها لا ترى في
أي من هذه الهجمات تصعيدًا.
وقالت نائبة السكرتير الصحفي للبنتاغون،
سابرينا سينغ ، في اليوم التالي لمقتل الجنود الأمريكيين الثلاثة في الأردن:
"نحن لا نسعى إلى حرب أوسع مع إيران". "نحن لا نسعى إلى مزيد من
الصراع، ولا نريد أن نرى هذا يتسع إلى صراع إقليمي"، ومنذ ذلك الحين، أجرت
الولايات المتحدة محادثات بهدوء مع المسؤولين الإيرانيين سعياً لتجنب المواجهة
المباشرة بين القوات المسلحة للبلدين، وقال زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك
شومر، إن بايدن وفريقه يعملون على منع التصعيد مع إيران في الشرق الأوسط.
أظهرت عملية "طوفان الأقصى" هشاشة
الكيان الاستعماري الإسرائيلي، فقد عجز الجيش الأقوى في المنطقة عن تحقيق أي نصر
على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ولم تفلح سياسة الهروب للأمام بمهاجمة إيران،
فقد كشف الرد الإيراني عن كيان أكثر هشاشة، فقد قالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، إنه للمرة الثانية خلال ستة
أشهر، تحتاج "إسرائيل" إلى دعم امريكا للتعامل مع "تهديد" قد
يتبين أنه أكبر من قدرتها، في إشارة إلى الرد الانتقامي لإيران على العدوان
الإسرائيلي الذي استهدف قنصليتها في دمشق، وتابعت "هآرتس" أن حاجة
"إسرائيل" إلى الدعم الأميركي في مواجهة إيران يكشف عن تأكل الردع
الإسرائيلي، وأشارت الصحيفة إلى أن جيران "إسرائيل" يتابعون التطورات في
المجتمع الإسرائيلي، من التأكل التدريجي في صفوف "الجيش" إلى الصدع
الداخلي الذي بدأ يطفو على السطح الآن، وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية، في وقتٍ
سابق، أن تهديد إيران بالرد على استهداف قنصليتها في سوريا شل "إسرائيل"
من شدة الخوف، رغم أن المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان-بيار، أكدت التزام
الولايات المتحدة الأميركية بأمن "إسرائيل" تجاه ما اسمته "تهديد
إيران ووكلائها"، مشيرةً في الوقت عينه إلى أن إدارتها نقلت لإيران أن
"لا علاقة للولايات المتحدة بهجوم القنصلية في دمشق"، وأشارت جان-بيار
إلى أن الولايات المتحدة لا تريد "للصراع في المنطقة أن يتوسع".
لا جدال أن الهجوم الإسرائيلي على القنصلية
الإيرانية في دمشق لن ينجح في استدراج الولايات المتحدة للدخول في حرب مع إيران،
وسوف يفاقم الخلافات بين بايدن ونتنياهو، إذ يشير الهجوم الإسرائيلي إلى حالة
الغضب وفقدان الاتزان والذي ميز إسرائيل منذ عملية حماس الناجحة في السابع من
أكتوبر/تشرين الأول، وكان الرئيس الأمريكي الصهيوني جو بايدن قد حذر حلفائه
الإسرائيليين في أكتوبر الماضي أن الأمريكيين يتفهمون "صدمتهم وألمهم
وغضبهم" ولكن لا ينبغي لإسرائيل أن "تستهلك" بهذا الغضب. وأشار إلى
أن الولايات المتحدة "ارتكبت أخطاء أيضًا" وسط غضبها بعد أحداث 11
سبتمبر ـ في إشارة غير مباشرة إلى شن حرب هجومية ضد العراق، البلد الذي لا علاقة
له بهجوم 11 سبتمبر.
لا ترغب الولايات المتحدة الأمريكية بالتورط في حرب مباشرة مع إيران، ولا يمكن أن ينجح نتنياهو بجر بايدن إلى حرب إقليمية شاملة، فالولايات المتحدة تعلم جيداً الكلفة الهائلة لهذه الحرب، وهي تسعى إلى احتواء وردع إيران،
يصعب تصديق سردية الغضب وحالة الهيجان
القومي الإسرائيلي، فمن الواضح أن قصف القنصلية الإيرانية في دمشق كان بمثابة
تصعيد واضح بما فيه الكفاية وهو توسع في الجرائم الإسرائيلية ضد قوانين الحرب،
فقرار الهجوم يعكس قراراً مدروساً بعناية على أعلى المستويات في حكومة بنيامين
نتنياهو، فالهجوم كان جزءاً من محاولة لتصعيد طريق إسرائيل للخروج من الوضع الذي
أصبحت فيه، فالتصعيد، باعتباره وسيلة مقصودة لإسرائيل للخروج من الطريق المسدود في
غزة، يتألف من عنصرين. والسبب الرئيسي هو استفزاز إيران للرد، وهو ما يمكن إسرائيل
من تقديم نفسها على أنها مدافعة وليس مهاجمة، ويدفع النقاش بعيداً عن الدمار الذي
تلحقه بغزة ويتجه نحو الحاجة إلى حماية نفسها ضد الأعداء الأجانب. والعنصر الآخر
هو زيادة فرصة تورط الولايات المتحدة بشكل مباشر في الصراع مع إيران. وإذا حدث
ذلك، فإن الحرب في الشرق الأوسط لن يُنظر إليها على أنها مجرد مسألة عقاب إسرائيل
للفلسطينيين، بل ستشمل بدلا من ذلك أسهم القوة العظمى الراعية لإسرائيل.
خلاصة القول أن قرار إسرائيل بالهجوم على
القنصلية الإيرانية في دمشق هو محاولة يائسة من حكومة نتنياهو لاستدراج الولايات
المتحدة للدخول في حرب مع إيران عقب فشله الذريع في تحقيق نصر عسكري حاسم على حركة
حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وبعد أن دخلت إسرائيل في عزلة دولية بعد
ارتكابها جريمة حرب الإبادة الجماعية، فقد كان نتنياهو يعلم جيداً أن إيران سوف
ترد دون تردد، وهو ما يدفع إدارة بايدن الملتزمة بأمن المستعمرة الصهيونية
ورعايتها إلى توسيع نطاق الحرب، لكن الولايات المتحدة التي تعد الكيان الإسرائيلي
وكيله وحليفة الاستراتيجي في المنطقة يدرك إن الحرب مع إيران ستكون ضارة للغاية بمصالح الولايات المتحدة لأسباب
عديدة، بما في ذلك التكاليف البشرية والمادية المباشرة، وتعطيل النشاط الاقتصادي
الذي يؤثر على الأمريكيين، والاستياء الخارجي الذي يؤدي إلى المزيد من الأعمال
الانتقامية العنيفة، ونسف الدبلوماسية الجديرة بالاهتمام، وتحويل مسار السياسة
الخارجية، في وقت تستجمع الولايات المتحدة قوتها لمواجهة خصم استراتيجي ثقيل في
المحيطين الهادي والهندي، وعلى وشك الدخول في حرب حتمية مع الصين، وتوشك على خسارة
حرب الوكالة مع روسيا في أوكرانيا، فضلاً عن المشاكل الاقتصادية والسياسية
والهوياتية الأمريكية الداخلية، وقرب موعد الانتخابات، وبهذا فإن رهانات نتنياهو
خائبة ولا تعدو عن كونها مغامرة يائسة أظهرت هشاشة الكيان لاستعماري، بعد تغير
قواعد الاشتباك وحروب الظل وتوجيه إيران ضربة قاسية من خلال منظومة القوم
الصاروخية وعبر المسيرات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي نفس الوقت وضعت
المغامرة الإسرائيلية الولايات المتحدة في حالة حرجة وأظهرت عيوب القوة العالمية
الأولى المادية والرمزية والأخلاقية، وهو ما يتطلب مراجعة استراتيجية أكثر حصافة
للعلاقة الغريبة مع إسرائيل التي أوصلت الولايات المتحدة إلى وضعها الحالي الصعب
والخطير.