بعد انتخابات رئاسية مبكرة أجريت في ديسمبر/ كانون أول الماضي يبدأ
المشير عبد الفتاح السيسي يوم الثلاثاء المقبل 2 أبريل ـ نيسان دورة رئاسية جديدة
هي الثالثة بالمخالفة للدستور المعدل الذي نص على دورتين فقط، كانت الدورة الأولى
من 2014 والثانية من 2018، وتبدأ الثالثة من 2024 بعد تمديد الفترة الثانية إلى 6
أعوام بدلا من أربعة وفقا للنص الدستوري قبل تعديلات 2019 التي جرت وسط رفض سياسي
واسع لم يفلح في وقفها.
برغم كل العوار الدستوري والإجراءات الأمنية التعسفية ضد المنافسين
في كل الجولات الانتخابية السابقة فإننا أمام حكم الأمر الواقع الذي فرض نفسه على
الجميع، واستعاد مسار الحكم العسكري لمصر الذي لم ينقطع سوى مدة عام واحد(حكم
الدكتور محمد مرسي رحمه الله)، بل إن الحكم الحالي هو النسخة الأردأ في سلسلة
الحكم العسكري الممتد منذ العام 1952.
نظريا تولى السيسي الحكم حتى الآن لمدة عشر سنوات (2014 ـ 2024)
وعمليا هو يحكم منذ 3 يوليو 2013، والجميع مدرك أن المستشار عدلى منصور الذي تولى
الفترة الانتقالية كان مجرد غطاء شكلي، بل إنه هو نفسه كان يدرك ذلك وعمل بمقتضاه
حتى رحيله.
مع بدء الدورة الجديدة للسيسي تثور التساؤلات عن احتمالات التغيير في
المشهد السياسي المغلق منذ 2013، وقد ساعد في طرحها ما ذكره الصحفي والنائب
البرلماني المقرب من النظام مصطفى بكري مؤخرا عن احتمال تعيين السيسي نائب له
تطبيقا للمادة 150 من الدستور التي منحته حق تعيين نائب أو أكثر، مع تغيير الحكومة
الحالية وهذه الأخيرة هي إجراء شكلي مع الدخول في عهدة رئاسية جديدة.
قبل الحديث عن الجديد المحتمل دعونا نلقي نظرة على القديم المحقق،
ككشف حساب عن السنوات العشر أو حتى الأحد عشر الماضية، ولنبدأ بالجانب السياسي حيث
تم خلال تلك السنوات إغلاق الحياة السياسية وعسكرتها تماما بزعم تعرض الدولة
لأخطار، وما تبع ذلك من عمليات قتل واعتقال، وتشريد وتقسيم للشعب، ومنعه من حق
التعبير،والتظاهر، وحرمانه من الانتخابات الحرة في كل المستويات، وحل أو تجميد أو
محاصرة الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي كانت داعمة لنظام 3 يوليو في البداية،
واعتقال بعض قادتها وأعضائها، وحتى حين دعاها لحوار وطني فقد تعمل معها كديكور
فقط، ولم يستجب لما قدمته من توصيات، وعلى الصعيد الاقتصادي استلم السيسي الحكم
بينما كانت ديون
مصر الخارجية 43 مليار
دولار فصعد بها إلى 165 مليار قبل أن يضيف إليها مؤخرا ديونا جديدة من صندوق النقد
(8 مليار دولار) والبنك الدولي (6 مليار دولار على 3 سنوات) والاتحاد الأوربي (7,4
مليار يورو)، بخلاف قروض اصغر من عدة دول وجهات أخرى، كما استلم السيسي السلطة
بينما كان الدولار يساوي 6 جنيهات ليقفز به إلى خمسين جنيها ( بل وصل إلى 70 جنيها
لبعض الوقت)..
صحيح أن السيسي أنجز مجموعة من المشروعات الكبرى اعتبرها واجهة
جمهوريته الجديدة، مثل تفريعة قناة السويس، والعاصمة الإدارية، والعلمين، وبناء
آلاف الشقق السكنية الجديدة، واستصلاح مساحات جديدة من الأراضي، وبناء عدة طرق
سريعة، وتطوير للسكك الحديدية والمترو، لكن غالبية هذه المشروعات لم تكن ذات جدوى
اقتصادية مثل تفريعة قناة السويس التي اعترف السيسي نفسه أنها كانت لرفع الروح
المعنوية للشعب، أو لم تكن ذات أولوية ضمن سلم أولويات الشعب أو الوطن، مثل
العاصمة الإدارية أو العلمين أو مشروع المونوريل، الخ، وصحيح أن مصر ليست الوحيدة
التي تقترض من المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد لكنها جاءت في الترتيب
الأول عربيا والثاني عالميا في هذا الاقتراض، الذي لم يكن لضرورة تنموية.
وبالحديث عن المؤشرات التنموية والاجتماعية الأخرى وعلى عكس تصدرها
مؤشر القروض فإن مصر تزيلت المؤشرات الأخرى وأحدثها مؤشر القضاء حيث حلت في
المرتبة 110 من مجموع 113 دولة من حيث نزاهة القضاء وسيادة القانون، وحققت مصر 18%
في مؤشر الحرية العالمي، وجاءت في المرتبة 121 من 137 في مؤشر السعادة العالمي،
تسبقها موريتانيا والعراق وفلسطين (قبل طوفان الأقصى)، وفي مؤشر الفساد 108
عالميا، وفي مؤشر حرية الصحافة 166، وفي مؤشر جودة التعليم في المركز 90 عالميا،
وتوسطت قائمة أسوأ عشرين دولة في احترام حقوق العمال (وفقا لتقرير الاتحاد الدولي
لنقابات العمال)، ولا ننسى معركة خط الفقر التي صاحبت تقريرا للبنك الدولي أثبت
فيها أن ثلثي المصريين تحت خط الفقر أو يقتربون منه.
هل تشهد دورة الحكم الجديدة تغييرات مهمة تنعكس إيجابا على الوطن
والمواطنين؟ هذا هو السؤال الذي بدأنا به، وحتى الآن لا تبدو في الأفق تغييرات
باستثناء ما زعمه مصطفى بكري من تعيير نائب للرئيس، وعلى قرض صحة هذا الاحتمال
فسيكون السؤال التالي عن طبيعة هذا النائب وهل هو شخصية عسكرية أم مدنية ، رجلا أم
امرأة؟ وهل يمكن تعيين أكثر من نائب ليرضي مراكز قوة مهمة، كأن يكون أحدهم عسكري
والآخر مدني والثالث سيدة وربما رابع مسيحي، يظل الاحتمال في أصله ضعيفا بالنظر
لعقلية السيسي التي تخشى من خيالها، والتي لم تسمح لأي شخصية بالبروز أكثر من حجم
معين، حيث كانت الاقالات والإبعادات جاهزة دوما للتخلص ممن يبزغ نجمهم ويشكلون
خطرا متوهما عليه، حتى لو كانوا من أقرب الناس مثل شريكه في الانقلاب صدقي صبحي أو
صهره وشريكه أيضا محمود حجاازي.
يأمل البعض أن تكون الدورة الرئاسية الثالثة فرصة جديدة أيضا
لإصلاحات سياسية تبدأ بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإطلاق حرية العمل الحزبي،
والنقابي والطلابي، والبرلماني، بعد أن فشلت الدورتان السابقتان في تحقيق تلك
الإصلاحات، لكن النظام ربما يعتبر ذلك هزا للاستقرار.
إن ما يدعيه النظام من نجاح في تحقيق الاستقرار هو استقرار مصطنع،
ولذلك نجد الخشية دوما من أي تظاهرة شعبية حتى لو كانت محدودة العدد، وهذا
الاستقرار المصطنع يدركه العالم الذي يوفر دعما سياسيا وماليا للسيسي للبقاء في
السلطة والحفاظ على هذا الاستقرار المصطنع لتوظيفه في سياقات أخرى، وأهمها الموقف
من العدوان الإسرائيلي ومنع الهجرة المصرية والأفريقية إلى أوروبا، لكن المستثمرين الحقيقيين وشركات السياحة،
والمراكز البحثية يدركون تماما هشاشة الوضع في مصر فتحجم الاستثمارات (بخلاف
الاستثمارات الحكومية) وتحجم السياحة أيضا والتي كانت موردا رئيسيا للدخل الأجنبي.
بعد مرور عشر سنوات من الانسداد والخلاف آن للقوى الوطنية جميعها تجاوز خلافاتها، والجلوس على طاولة حوار وطني حقيقي لا يستثني أحدا في الداخل أو الخارج، والوصول إلى عقد وطني جديد محل توافق عام يحدد شكل الدولة التي نريدها جميعا
من التغييرات المحتملة إدخال تعديلات جديدة في الدستور لتتيح للسيسي
الترشح لدورات جديدة، وقد بدأ هذا الحديث هامسا لكنه تصاعد مع الوقت، وليس مستبعدا
أن يتم ولكن ليس خلال العام أو العامين الأولين من الولاية الجديدة، ما سيمثل حال
حدوثه ضربة جديدة لآمال التغيير بما فيها تلك التي تنتظره حتى بعد انتهاء هذه
الدورة التي يفترض أنها الأخيرة للسيسي في العام 2030 ، وهذا ما يزيد احتمالات
الانفجار الشعبي أو ربما تحركات من داخل النظام لبعض الطامحين الذين سيجدون أنفسهم
على مشارف القبر دون أن يحققوا أحلامهم، أو الذين يدركون خطورة ذلك على الوطن.
مسؤولية الانسداد السياسي ليست في رقبة السيسي ونظامه فقط بل تشاركه
فيها المعارضة بكل توجهاتها (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار)في الداخل والخارج،
حيث عجزت تلك المعارضة خلال السنوات العشر الماضية عن تجاوز خلافاتها، وعجزت من ثم
عن بناء تحالف سياسي واسع( كما فعلت قريناتها في تجارب دولية أخرى) يوفر بديلا
آمنا مقنعا للمجتمع المصري والمجتمع الدولي أيضا،لقد ظلت حالة الاستقطاب السياسي
بين قوى المعارضة هي سيدة الموقف طيلة هذه السنوات رغم أنها جميعا أصبحت تحت مقصلة
النظام بما فيها تلك القوى التي كانت داعمة له، وأصبحت السجون مكانا جامعا لها
بدلا من الميادين، وإذا ظلت على هذه الحالة فلا تنتظر أن يقدم لها النظام هدايا
الإصلاح السياسي على طبق من ذهب.
بعد مرور عشر سنوات من الانسداد والخلاف آن للقوى الوطنية جميعها
تجاوز خلافاتها، والجلوس على طاولة حوار وطني حقيقي لا يستثني أحدا في الداخل أو
الخارج، والوصول إلى عقد وطني جديد محل توافق عام يحدد شكل الدولة التي نريدها
جميعا، ويحدد المسئوليات والسلطات، ويوزعها على أكثر من مركز لصنع القرار في
الدولة حتى لا تتجمع في يد جهة واحدة، ويحدد طبيعة العلاقة بين المدنيين
والعسكريين، في ظل احترام متبادل لدور كل طرف، كما يحدد ثوابت الدولة المصرية
داخليا وخارجيا التي لا يجوز لأحد الخروج عليها، ويقدم خارطة طريق واضحة المعالم
محددة الخطوات لتحول سياسي آمن برضا جميع الأطراف.. وهذه المبادرة لا تحتاج إذنا
من سلطة، لكنها لا تستبعدها من الحوار أيضا.