(فلما انتصف شهر رمضان الكريم تذكر العالم المنافق أنه شهر مقدس لدى
المسلمين، وأن معاناة الفلسطينيين قد زادت عن الحد وأحرجت الجميع من ملوك وأمراء
القصور إلى عوام الناس في القرى والنجوع والمدن والضواحي التي تحتضن السفارات
الإسرائيلية حيث يتحرك ممثلو الكيان بحرية أكثر بكثير من حركة المواطنين أصحاب
البلد.. في الخامس عشر من شهر رمضان 1445 هجري قرر قادة العالم المتحكمون في مجلس
الأمن السماح بتمرير قرار أعرج بوقف لإطلاق النار فيما تبقى من شهر رمضان على أمل
أن يتحول إلى وقف دائم لإطلاق النار.. شكر الله سعيك أيها العالم المختطف!).
بعد 171 يوما من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المستمر صحا ضمير
الدول العظمى، وتكرمت أمريكا وتعطفت وتنازلت وسمحت لنفسها بالتزام الصمت وعدم
استخدام سلاح المنع المعروف بالفيتو ضد قرار أعرج بوقف الحرب وإطلاق الأسرى؛ دون
مطالبة واضحة بوقف دائم ولا بانسحاب قوات الجيش الصهيوني، ولا إعادة المهجرين
والمواطنين إلى بيوتهم ولا بحق التعويض وإعادة الإعمار، ولا شيء اللهم إلا إنقاذ إسرائيل
من نتنياهو الذي تعتقد إدارة بايدن أنه يخرب كل خطط البيت الأبيض من أجل الهيمنة
والسيطرة على العالم العربي بطريقة "هادئة" بينما يفضلها نتنياهو "ساخنة".
بعد قرابة ستة أشهر جاء قرار
مجلس الأمن "الأعرج" ليكشف للعالم جملة
من الحقائق عن تلك الحرب العالمية العربية المشتركة:
تزايد الغضب داخل الولايات المتحدة من أمرين؛ أولهما هو غضب نخبوي عن كيف تحولت أمريكا بقوتها وجبروتها إلى تابع للكيان يتحكم في قراراته وحتى في إرادته السياسية ويؤثر على مصير الحكم فيه، وثانيهما هو الغضب الجماهيري بسبب العنف المفرط ومشاهد القتل والقصف وجرائم الحرب التي تقوم بها قوات الاحتلال
1- لم تنتصر دولة
الكيان ولم تحقق أيا من أهدافها التي أعلن عنها نتنياهو بنفسه ومعه وزير حربيته،
وأعني تدمير قوة حماس وتحرير الأسرى.
2- لم تستطع
دولة الكيان إقناع العالم بأسره بسردية حق الرد والدفاع عن نفسها؛ لأن العالم يعلم
أنها دولة احتلال وهو سابق على عملية طوفان الأقصى بقرابة سبعة عقود.
3- تواجه
دولة الاحتلال عزلة كبيرة عبرت عنها مجلة الإيكونوميست في عددها الأخير، حين وضعت
صورة لعلم دولة الكيان مغروزا في صحراء قاحلة تنال من الرياح وعنونت "إسرائيل
وحدها" (Israel Alone).
4- لم تعلن
المقاومة هزيمتها ولم ترفع الراية البيضاء وتستسلم كما طالبها وزير خارجية أمريكا أنتوني
بلينكن علانية كشرط لوقف النار، ولكن تم استصدار قرار بوقف إطلاق النار دون تحقيق
مطلب بلينكن.
5- لم تستطع
دولة أمريكا العظمى الصمود في وجه الغضب الدولي العارم والمتمثل في الدول غير
دائمة العضوية في مجلس الأمن ومن بينها دولة الجزائر الشقيقة، وبالتالي وجدت نفسها
هي الأخرى في عزلة متزايدة وبدأت تضيق عليها مساحة التحرك الدبلوماسي في أروقة
الأمم المتحدة، رغم علمنا جميعا بأن شراكتها مع الكيان لم ولن تنفض.
6- تزايد الغضب
داخل الولايات المتحدة من أمرين؛ أولهما هو غضب نخبوي عن كيف تحولت أمريكا بقوتها
وجبروتها إلى تابع للكيان يتحكم في قراراته وحتى في إرادته السياسية ويؤثر على
مصير الحكم فيه، وثانيهما هو الغضب الجماهيري بسبب العنف المفرط ومشاهد القتل
والقصف وجرائم الحرب التي تقوم بها قوات الاحتلال على مرأى ومسمع من العالم.
7- هذه الحرب
أكدت ما ذهبنا إليه قبل عشر سنوات، وهو أن الثورات المضادة والانقلابات التي حدثت
بعد الربيع العربي هي من تدبير تحالف الشر العربي- الصهيوني، والذي ظن مدبروه أنه
آن الأوان لإسكات الشعوب حتى لا تزعج الكيان والحكام الذين اعتقدوا خطأ أن دولة
الكيان بصفتها وكيل أمريكا بمقدورها أن تحمي عروشهم، واكتشفوا أن دولة الكيان غير
قادرة على حماية نفسها في مواجهة المقاومة وليس الجيوش النظامية.
8- كما أكدت
الحرب التي لم تتوقف أن الحكومات العربية متواطئة حتى النخاع في الحرب على فلسطين كل
فلسطين، فالضفة الغربية تتعرض لما يتعرض له شعب
غزة، وقوات الاحتلال تتجول في مدن
الضفة وشوارعها وأزقتها تحت سمع وبصر قوات محمود عباس، والناس يتخطفون من البيوت
والمنازل والمستشفيات ولم نسمع لأبي مازن صوتا، ولم نقرأ لوزراء الخارجية العرب
تنديدا أو استنكارا، فقضية فلسطين لم تكن على أجندتهم إلا كورقة للتفاوض مع أمريكا.
9- لم تستطع -أو
لنقل لم ترغب- الدول العربية المسماة بالكبرى وقف الحرب أو إدخال المساعدات، بل كل
ما تسعى إليه وتنتظره، وسيطول انتظارها، هو لحظة إعلان هزيمة المقاومة وانتصار
نتنياهو، لذا فلا فضل لهم في
وقف إطلاق النار.
10- أزعم أن قرار
وقف إطلاق النار "الأعرج" لم يسعد بعض حكام المنطقة لأنه يمثل انتصارا
حقيقيا للمقاومة، رغم عيوبه وقصوره عن تلبية الحد الأدنى الإنساني لشعب يتعرض
للقتل والتدمير والتهجير والتجويع.
القرار الذي اختبأ خلف قدسية شهر رمضان نسي من كتبوه أن النفس البشرية مقدسة طوال العام، وأن استدعاء العواطف لا يكون في المواسم الدينية بل يجب أن يكون ثابتا من ثوابت القتال والحروب
11- القرار
الذي اختبأ خلف قدسية شهر رمضان نسي من كتبوه أن النفس البشرية مقدسة طوال العام،
وأن استدعاء العواطف لا يكون في المواسم الدينية بل يجب أن يكون ثابتا من ثوابت
القتال والحروب، وأنه -أي القرار- الذي صدر بعد مرواغات ومفاوضات وحق النقض لثلاث
مرات لم يأت على ذكر القرارات السابقة المتعلقة بقضية فلسطين ولا الدولة
الفلسطينية، وهي قرارات كما نقول بالعامية المصرية "تسد عين الشمس".
12- أمريكا التي
سمحت بالقرار كادت ممثلتها في مجلس الأمن أن تبكي من فرط حزنها على صدور هذا
القرار الأعرج، وخرج متحدث البيت الأبيض ليوضح أن عدم استخدام الفيتو لا يعني
تغييرا في الموقف الأمريكي تجاه دولة الكيان، وعاجلتنا الخارجية الأمريكية بتوضيح
مفاده أن القرار غير ملزم بالنسبة لإسرائيل.
في تقديري المتواضع أن القرار يمثل نقلة جديدة في الصراع الذي انتقل من غزة
إلى المنطقة وسيؤثر عليها لسنوات كما قال جالانت، وزير الدفاع وعضو مجلس الحرب
الصهيوني الحالي، وسينتقل هذا الصراع إلى آفاق أكبر وأوسع، وليس أدل على ذلك من أن
إسبانيا ومالطا وسلوفينيا وأيرلندا قررت اتخاذ خطوات للاعتراف بالدولة الفلسطينية،
الأمر الذي اعتبره نتنياهو مكافأة لحماس وليس للشعب الفلسطيني المناضل منذ سبعة
عقود.
وفي رأيي أيضا أن زيادة مساحة الوعي التي ارتفعت حتما ستعقبها وربما بوتيرة
أسرع مساحة الفعل على المستويين العربي والعالمي، خصوصا وقد تبين للجميع أن جيش الاحتلال
ليس إلا "نمرا من ورق"، وأن قدرته على الحسم في حروب طويلة مشكوك فيها نوعا
ما، وأن دولة الكيان لم تكن لتصمد لولا الدعم الأمريكي الغربي والدعم العربي المتصهين،
وجميعهم يرون في المقاومة والشعوب عدوا لهم، وهذا ما سيجعل السنوات المقبلة أكثر
سخونة من الأشهر الفائتة.
سوف يحتاج الكيان لعقود لترميم ما تهتك من بنيانه الذي ينهار أمام أعين
الجميع وسمعته التي وصلت إلى الحضيض، وخصوصا سمعته كدولة "عسكرية قوية"
في محيط من الجيوش المنشغلة بالسياسة والتجارة، فهل يسعفه الزمن أم تعاجله الشعوب
التواقة إلى التخلص من الاستعمار والاستبداد بضربة واحدة؟