تبنت الولايات المتحدة منذ نشأتها المشروع الصهيوني، الذي أصبح وما
أنتجه من قيام
إسرائيل، ركيزة أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية. وما نراه
اليوم من دعم أمريكي سافر للحرب على غزة، رغم معارضة الرأي العام العالمي القوية
حتى داخل أمريكا نفسها، لهو خير دليل على ذلك.
وفي هذه الدراسة، نقدم اليوم:
1 ـ قراءة مفسرة لأسباب هذا التبني والدعم السافر بقلم الكاتب
الأمريكي المتخصص في الشؤون الخارجية: والتر راسيل ميد، في كتابه "قوس العهد:
الولايات المتحدة وإسرائيل ومصير الشعب اليهودي" الصادر بنيويورك عام 2022 عن
دار نشر ألفريد كنوبف.
2 ـ كما نقدم قراءة توضيحية لمظاهر هذا الدعم وخطورته من خلال حرب
طوفان الأقصى. "الولايات المتحدة وحرب السيوف الحديدية: تقييم مؤقت".
وهي دراسة أصدرها معهد دراسات الأمن القومي INSS بجامعة تل أبيب في مارس 2024، وهي
للباحثين: تشاك فريلتش وإلداد شافيت، وكلاهما من قدامي الباحثين بالمركز ومتخصصان
في شئون الاستخبارات والسياسة الخارجية.
أولا ـ عرض كتاب قوس العهد
لعقود عديدة حتى الآن، كان هناك لغز مفترض يكمن في قلب السياسة
الخارجية الأمريكية: لماذا دعمت الولايات المتحدة إسرائيل بقوة ولفترة طويلة، خاصة
عندما يبدو أن القيام بذلك يأتي بتكلفة عالية من الدم والمال والرأي العالمي؟
وفقا لكتاب ميد فإن إسرائيل متأصلة بعمق في الوعي الجماعي الأمريكي.
نعم هي "بقعة على خريطة العالم"، لكنها مع ذلك فهي "تحتل قارة في
العقل الأمريكي". كما ترتبط المناقشات الأمريكية حول إسرائيل غالبا بمناقشات
أكبر حول الهوية الأمريكية، واتجاه السياسة العالمية والمكانة التي يجب أن تطمح
الولايات المتحدة إلى بلوغها في تاريخ العالم.
نفي ميد أو تبريره لتأثير اللوبي الإسرائيلي
ينفي ميد نظرية اللوبي الإسرائيلي. التي طرحها الباحثان جون ميرشايمر
وستيفن والت في كتابهما الصادر عام 2007 ـ بأن دعم أمريكا المستمر لإسرائيل لا
معنى استراتيجي كبير بحيث لا يمكن تفسيره إلا من خلال الضغط الذي لا يقاوم الذي
تمارسه وسائل الإعلام المملوكة لليهود، من قِبل جماعات الضغط اليهودية، ومن قبل
خبراء السياسة اليهودية وزملائهم من اليمين المسيحي. ويعتبر ميد كتاب والت
وميرشايمر، قد دعم تيار معاداة السامية في جميع أنحاء العالم.
وللتدليل على رأيه، يقول ميد إن العديد من السياسيين الأمريكيين
المؤيدين لإسرائيل، مثل دونالد ترامب، كانوا مكروهين من قبل الغالبية العظمى من
اليهود الأمريكيين. كما أن سياسة الولايات المتحدة لم تكن في الواقع مؤيدة
لإسرائيل دائما: فلم تبدأ الولايات المتحدة في تسليح الدولة اليهودية بشكل كبير
حتى إدارة كينيدي، ولم يعلن الرئيس ريجان إسرائيل "حليفا رئيسيا من خارج
الناتو" حتى عام 1987. وعندما بدأت واشنطن أخيرا في دعم إسرائيل، كان ذلك
لأنها أصبحت قوة عظمى إقليمية دون مساعدة الولايات المتحدة. لذا كما يقول ميد،
كانت أمريكا بحاجة إلى إسرائيل، وليس العكس.
حتى مع اعتراف ميد بوجود لوبي مؤيد لإسرائيل داخل الولايات المتحدة،
فإنه لوبي من بين العديد من اللوبيات التي لا تنجح إلا عندما تحظى بدعم شعبي واسع.
والجمهور الأمريكي مؤيد جد لإسرائيل نتيجة قائمة طويلة من الأسباب العضوية التي لا
علاقة لها بأيباك أو جورج سوروس أو سولزبيرجر.
علاقة استثنائية بين أمريكا واليهود
مثلما تعد أمريكا نفسها دولة استثنائية، فهناك أيضا رابطة استثنائية
بينها وبين اليهود. وفي عام 1789، احتفلت أمريكا بدخولها إلى عالم الحداثة من خلال
منح اليهود حقوقا كمواطنين كاملي الحقوق مع بقية الشعب الأمريكي. كان عدداليهود
هناك آنذاك حوالي 1000 يهودي فقط.
يرى ميد أن الرابطة الخاصة بين أميركا واليهود لا تسبق الشتات
اليهودي الأميركي فحسب؛ بل تسبق أمريكا نفسها. ويعزو هذه الرابطة إلى ما يلي:
1 ـ منذ القرن الخامس عشر فصاعدا ، بدأ الأنجلوساكسون ككل في
الابتعاد عن معاداة السامية ذات الصبغة اللاهوتية التي ظلت السمة المميزة لسياسة
أوروبا لعدة قرون بعد ذلك. فقد ألقى الإصلاح البروتستانتي ضوءا جديدا أكثر ودية
على اليهودية من خلال ربط المؤمنين بالتوراة، دون وساطة من الكنيسة.
2 ـ ترسخت رؤية "ربطت مصير اليهود بمصير المتحدثين باللغة
الإنجليزية".
إن اندماج يهود أمريكا وصحة علاقة أمريكا السياسية بالدولة اليهودية يعملان كمقياس للتقدم الأمريكي في التبشير بالديمقراطية الليبرالية.
3 ـ استبدلت إنجلترا وأمريكا تدريجيا المجتمع الكلي أحادي الدين إلى
نموذج أكثر تعددية للوفاق بين الأديان في وقت أقرب من أوروبا القارية، على الرغم
من أن إنجلترا ستظل شبه متراصة دينية لفترة أطول.
4 ـ ساعد ظهور الرأسمالية الصناعية في إزالة المنع الذي أدت إليه
قوانين أوروبا المعادية للسامية في العصور الوسطى إلى إبعاد اليهود عن التجارة
والصناعة الأوروبية.
5 ـ ساعد نمو الطوائف الدينية على الأراضي الأمريكية إلى إعادة
اليهود بقوة إلى خطة الله، وفي تعزيز الميل الفلسي للسامية الأمريكية.
6 ـ الفلسفة العبرية للجيل المؤسس لأمريكا، التي كانت "منغمسة
في الصور واللغة والأفكار التاريخية للكتاب المقدس العبري".
7 ـ تم إطلاق فكرة أمريكا ذاتها من خلال نوع القومية الموسوية التي
رفعت العبرانيين القدماء من العبودية في مصر. مثلهم ، "تم تكليف الشعب
الأمريكي برسالة العناية الإلهية المخصصة للجنس البشري بأسره.
الدور الأمريكي في قيام الكيان
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عملت موجتان للهجرة ـ من
ألمانيا في أربعينيات القرن التاسع عشر، وروسيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر ـ
على تحويل أمريكا إلى أكبر مجتمع يهودي في العالم يحتوي على مليونين من اليهود.
لذلك، شدد الكونجرس قوانين الهجرة في عام 1924، مما أدى إلى تقييدها بشكل جذري.
ولولا هذا التقييد، لكان من المحتمل ألا تكون دولة إسرائيل موجودة اليوم. إذ لو
كانت أمريكا قد أبقت أبواب المزيد من الهجرة اليهودية مفتوحة بدلا من هذا الإغلاق
المفاجئ، فإنه كان سيقلل من الحاجة إلى دولة يهودية. ويتغافل ميد عن حقيقة مهمة هي
أن القوة الدافعة وراء الصهيونية في ذلك الوقت لم تكن - وستبقى لجيلين - يهود
شرقيين بل يهود أوروبا، الذين لم يكن لهم صلة تذكر بالمنطقة.
الإيمان الأمريكي بالمشروع الصهيوني
إن صداقة أمريكا التي لا تتزعزع مع الشعب اليهودي متجذرة في نهاية
المطاف في القناعة، التي تتقاسمها أقلية صاخبة على الأقل من الأمريكيين، بأن
اليهود يشكلون أمة خاصة، ويحق لهم إدارة شؤونهم الخاصة، وأن دولتهم تنتمي إلى
الأرض التي طُرد منها اليهود قبل 2000 عام!! وبهذا المعنى، قد يكون التشابك
اليهودي الأمريكي مشوبا بالدين، فكلاهما يشتركان في "دعوة مسيانية لتغيير
العالم" من خلال أن تصبحا، وفقا للعهد القديم، "نورا للأمم". وبدون
دعم أمريكا الذي لا يتزعزع، ستكون إسرائيل دولة أضعف بكثير. وعلى العكس من ذلك، فإن
اندماج يهود أمريكا وصحة علاقة أمريكا السياسية بالدولة اليهودية يعملان كمقياس
للتقدم الأمريكي في التبشير بالديمقراطية الليبرالية.
ثانيا: دراسة الولايات المتحدة والسيوف الحديدية
في حرب طوفان الأقصى، أو السيوف الحديدية كما تسميها إسرائيل، وصل
الدعم الأمريكي لإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة لم تشهدها منذ حرب 1973. وقد تجلى
هذا الدعم على جميع المستويات: العسكرية والاستراتيجية والدبلوماسية. وتم التعبير
عنه عمليا من خلال الضمان الأمريكي غير الرسمي لوجود إسرائيل وأمنها. عمليا، تصرفت
الولايات المتحدة كما لو كانت حليفا تعاقديا، ومن المشكوك فيه أن إسرائيل كان
بإمكانها توقع المزيد. ويمكن أن يعزى هذا الدعم غير العادي إلى الالتزام الشخصي
العميق لبايدن تجاه إسرائيل، وإلى الطابع المؤسسي للعلاقات الاستراتيجية بين
أمريكا وإسرائيل في العقود الأخيرة، بما في ذلك التخطيط المشترك من قبل المؤسستين
الأمنيتين بهما.
السلوك الأمريكي في هذه الحرب مختلف عن الحروب السابقة على كافة
الأصعدة والمحافل والأساليب والصور المختلفة:
1 ـ اتفاق استثنائي بين الطرفين بشأن أهداف الحرب: تدمير حماس، وخلق
حالة أمنية جديدة في قطاع غزة والمنطقة الحدودية بين غزة وإسرائيل. وتركز الإدارة
الأمريكية الآن على تشكيل نظام إقليمي جديد يقوم على إقامة دولة فلسطينية،
والتطبيع مع السعودية، وإنشاء جبهة موحدة ضد إيران.
2 ـ امتنع الأمريكيون عن فرض أي قيود زمنية على إسرائيل في حربها على
القطاع. وعلى الرغم من الضغوط المحلية والدولية المتزايدة، امتنعت الإدارة
الأمريكية عن وضع حدود زمنية لإسرائيل فيما يتعلق بمدة الحملة العسكرية، وتحديد
موعد ملزم لإنهائها، أو حتى الدعوة إلى وقف إطلاق النار.
في حرب طوفان الأقصى، أو السيوف الحديدية كما تسميها إسرائيل، وصل الدعم الأمريكي لإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة لم تشهدها منذ حرب 1973.
3 ـ المشاركة الأمريكية المباشرة منذ بداية الحرب وصلت إلى أعلى
المستويات السياسية والعسكرية. فقد شارك بايدن ووزيرا الخارجية والدفاع في عملية
صنع القرار الإسرائيلي وتصميم وتنفيذ الحملة على غزة. كما أجرى كبار المسؤولين
والضباط الأمريكيين مشاورات مهنية مع نظرائهم الإسرائيليين.
4 ـ المساعدة العسكرية المستمرة والدعم الاستراتيجي: ففي 8 تشرين
الأول/أكتوبر، أعلن بايدن ووزير الدفاع عن إرسال مساعدات عسكرية خاصة فورية إلى
إسرائيل، بدأت بمبلغ ملياري دولار، وسرعان ما وصلت إلى 14.3 مليار دولار. وأُنشئ
جسر جوي وآخر بحري للتعجيل بإيصال المساعدات.
وبحلول نهاية كانون الأول/ديسمبر، كانت 240 سفينة نقل و 20 سفينة شحن
قد سلمت عشرات الآلاف من الأطنان من الأسلحة والمعدات. كما أعلنت الإدارة
الأمريكية عن صفقة جديدة ضخمة لتزويد إسرائيل بطائرات مقاتلة ومروحيات. وأرسلت
"خلية عمليات خاصة" إلى إسرائيل للمساعدة في التخطيط العسكري
والاستخبارات، فضلا عن القوات الخاصة، للمساعدة في العثور على الرهائن.
5 ـ بناء الردع الإقليمي عبر نشر مجموعتي حاملات الطائرات
القتاليتين، وعدة أسراب مقاتلة، وحوالي 20 طائرة للتزود بالوقود. كما تم نشر
بطارية ثاد بالإضافة إلى عدد من بطاريات باتريوت لاعتراض الصواريخ. وهبطت عشرات
طائرات النقل الأمريكية في العراق وقطر والبحرين. ونشرت في الأردن أسطولا من
طائرات F-15 والقوات الخاصة.
6 ـ الدفاع النشط: اعترضت السفن الأمريكية صواريخ الحوثيين التي كانت
موجهة ضد أهداف إسرائيلية. وشكلت الإدارة الأمريكية تحالفا دوليا لحماية الطرق
البحرية في البحر الأحمر وحماية السفن المتجهة إلى إسرائيل. وتم تنفيذ غارات جوية
أمريكية ضد الحوثيين في اليمن وضد الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا.
وكانت تلك الضربات ردا على الضربات ضد القوات البحرية الدولية والقوات الأمريكية
في المنطقة، كما كانت أيضا جزءا من جهد شامل للدفاع عن إسرائيل.
7 ـ منع التصعيد الإقليمي ضد إسرائيل: عملت الولايات المتحدة طوال
الحرب لمنعها من التصعيد والتوسع في مسارح أخرى، سواء من خلال الردع العسكري ضد
إيران ووكلائها، أو دبلوماسيا، في لبنان والبحر الأحمر. وتحقيقا لهذه الغاية، عقدت
عدة جولات من المحادثات بهدف تعزيز تسوية من شأنها أن تُبقي حزب الله بعيدا عن
الحدود مع إسرائيل. طوال الحرب، أوضحت الولايات المتحدة معارضتها للتصعيد في
الشمال بتحريض من إسرائيل.
إن هذا الدور الأمريكي في حمل المشروع الصهيوني ودعمه بصورة غير مسبوقة يرجع في الإساس إلى المشروع الأمريكي للهيمنة على العالم، ويرجع أيضا إلى الأهمية الاستراتيجية لفلسطين والشرق الأوسط في نجاح هذه الهيمنة. وهذا درس مهم من دروس التاريخ والجغرافيا السياسية لفلسطين وما حولها
8 ـ تقسيم غير رسمي للعمل: حيث ركزت إسرائيل على حماس في غزة، في حين
ردعت الولايات المتحدة إيران و"حزب الله" وعالجت التهديد الحوثي في
البحر الأحمر.
9 ـ دعم دبلوماسي قاطع لإسرائيل: تواصل الإدارة الأمريكية توفير غطاء
دبلوماسي لإسرائيل. وقد بادرت إلى إصدار بيان مشترك غير عادي مع قادة بريطانيا
وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، أدان بشدة تصرفات "حماس" وأعربوا عن دعمهم
المطلق لإسرائيل. واستخدمت أمريكا الفيتو ضد ثلاثة قرارات معادية لإسرائيل في مجلس
الأمن. كما امتنعت عن التصويت على قرار آخر يدعو إلى زيادة المساعدات الإنسانية لقطاع غزة. كما قطعت دعم الأونروا.
التعليق
إن هذا الدور الأمريكي في حمل المشروع الصهيوني ودعمه بصورة غير
مسبوقة يرجع في الإساس إلى المشروع الأمريكي للهيمنة على العالم، ويرجع أيضا إلى
الأهمية الاستراتيجية لفلسطين والشرق الأوسط في نجاح هذه الهيمنة. وهذا درس مهم من
دروس التاريخ والجغرافيا السياسية لفلسطين وما حولها:
ـ هنري فورد: فلسطين مفتاح الاستراتيجية العالمية. من يسيطر عليها
يسيطر على العالم.
ـ قال نابليون وهو في محبسه في جزيرة سانت هيلانة: مصير الشرق رهن
بأسوار عكا. حين أستولي على عكا .. أكون قد وصلت إلى القسطنطينية والهند، وأكون قد
غيرتُ وجه العالم.
ـ باربرا توخمان: أي طاغية يحاول الاستحواذ على سيادة أوروبا، يجب
الحيلولة دونه والسيطرة على الشرق الأوسط.
ـ ناحوم جولدمان: فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوربا وآسيا وأفريقيا،
وهي المركز الحقيقي للقوة السياسية العالمية، والمركز العسكري الاستراتيجي للسيطرة
على العالم.
والسؤال الآن: متى يستفيق العرب، ومتى تدب الحياة في مراكز صنع
القرار لديهم لمنع ما يجري على الأرض الآن في غزة من إبادة شعب وتغيير لوضع
المدينة المقدسة والمسجد الأقصى وترسيخ واقع استيطاني جديد في الضفة الغربية؟!!!