كان من تداعيات عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من العدوان
الإسرائيلي على غزة، الذي يدخل شهره السادس، ظهور معضلة
تجنيد أو إعفاء اليهود
المتشددين "
الحريديم" في الجيش الإسرائيلي بشكل لافت وبقوة، وهو ما يشكل
تحديا سافرا للحكومة الإسرائيلية الحالية في كيفية إدارة هذا الملف الشائك.
يعود إعفاء اليهود المتدينين (الحريديم) من الخدمة العسكرية إلى
بداية تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948، إذ عاملتهم الحكومات الإسرائيلية منذ ذلك
الوقت معاملة خاصة بإعفائهم من التجنيد الإجباري، ليتفرغوا للدراسة الدينية،
وللمحافظة على نمط حياة اليهود التقليدية خوفا من اندثاره، وليمارسوا طقوسهم
وعباداتهم في مجتمعاتهم الخاصة وفق التشريعات التوراتية.
وقد تجدد الجدل بعد الحرب على غزة بشأن إعادة النظر في قرار إعفاء
الحريديم من الخدمة العسكرية، وارتفعت أصوات تطالب بضرورة تجنيدهم كغيرهم من
اليهود في إسرائيل، فما هي أسباب ظهور مسألة تجنيد أو إعفاء اليهود المتشددين من
الخدمة العسكرية إلى الواجهة من جديد بعد الحرب على غزة؟ وما هو موقف الأطراف
والقوى السياسية داخل الحكومة وخارجها منها؟ وما تداعياتها على الحكومة والمجتمع
الإسرائيلي؟
في هذا السياق أوضح الأكاديمي والباحث
الفلسطيني، الدكتور مهند مصطفى
أن "مسألة تجنيد المتدينين الحريديم أشغلت النظام السياسي والاجتماعي في
إسرائيل منذ تأسيسها، ومنحت الحكومات الإسرائيلية المتتالية إعفاء للمتدينين الذين
يدرسون في المدارس الدينية التوراتية (ييشيفوت)، والمرة الأخيرة التي تم تشريع
قانون يحدد إعفاء طلاب المدارس الدينية كان في عام 2015، وقد تم تشريعه بعد عودة
الأحزاب الدينية لحكومة نتنياهو في أعقاب انتخابات 2015".
مهند مصطفى.. أكاديمي وباحث فلسطيني
وأضاف: "أما معارضة المتدينين للتجنيد فترجع لعدة أسباب: دينية
أيديولوجية حيث لا يعترف قسم منهم بالصهيونية، ويعتبرون أنفسهم في حالة منفى، لذلك
عليهم التركيز على تعليم التوراة، والخوف من تأثير الاندماج في الجيش على نمط
حياتهم الديني والثقافي، وكذلك لأسباب سياسية تتعلق بحرص المؤسسة الدينية
والسياسية على ضبط شبابها وعزلهم عن المجتمع الواسع".
ولفت في حديثه لـ
"عربي21" إلى طبيعة النقاش حول هذه
المسألة بعد الحرب على غزة إذ "فرضت الحرب الحالية لونا آخر من النقاش حول
هذه المسألة، إذ كشفت حاجة الجيش إلى الجنود أولا، والثمن الذي تدفعه الشرائح
الاجتماعية التي تخدم في الجيش من حيث القتلى والثمن الاقتصادي الكبير ثانيا".
وتابع: "في المقابل فإن المجتمع الحريدي لا تكمن المشكلة في أنه
لا يتجند في الجيش، بل بحصوله على ميزانيات كبيرة بدون خدمة، وقد تفاقم هذا الخلاف
في أعقاب إقرار الحكومة للموازنة المالية للعام 2024، وتعديل موازنة 2023 على ضوء
الحرب، ولم تشمل الموازنتين تقليصات تُذكر في الميزانيات المخصصة للتعليم الديني،
في مقابل تقليصات كبيرة في باقي الوزارات وتحديدا تقليص ميزانية وزارة التعليم
فيما يتعلق بالتعليم الرسمي غير الديني".
وعن تفاعلات المسألة وتداعياتها على الحكومة الإسرائيلية رأى مصطفى
أن "الحكومة ونتنياهو تواجه تحديا سياسيا جديا، ويبدو أنه سيضطر للاختيار بين
الأحزاب الدينية، وحزب المعسكر الرسمي، وأن الاقتراح الجديد الذي ستطرحه الحكومة
سيكون قريبا جدا من مطالب الأحزاب الدينية، بشكل يرضي هذه الأحزاب وجمهورها، مما
سيدفع غانتس خطوة أخرى خارج الحكومة".
وتوقع "أن يكون القانون الذي ستقدمه الحكومة قريبا من مطالب
الأحزاب من حيث حيل الإعفاء من الخدمة العسكرية (22 ـ 23 عاما)، وتحديد حصص
التجنيد للجيش (لا يتعدى المئات)، وعدم الربط بين التجنيد وبين الميزانيات المخصصة
للمدارس الدينية وربما فصلهما عن بعض".
من جهته قال الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، ساري عرابي
"مسألة إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية تزامنت مع ولادة الكيان
الإسرائيلي، وقد بدأت عام 1952 حينما أعفى ديفيد بن غوريون 400 طالب حريدي من
الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وكانت دوافعه في ذلك الوقت هو قلة عددهم،
وعدم تأثيرهم على الوضع الاقتصادي، وبنية الجيش الإسرائيلي، وكانت رغبة منه في خلق
نوع من التوافق بين مكونات المجتمع الإسرائيلي المختلفة".
ساري عرابي.. كاتب ومحلل سياسي
وأضاف: "لكن بمرور الوقت أخذت تتزايد أعداد الشباب الحريديم،
وربما تشكل شريحتهم من عموم السكان داخل المجتمع الإسرائيلي من 10 إلى 13%، فنحن
نتحدث عن مئات الآلاف الحريديم بما فيهم شباب ينبغي أن يخدموا في الجيش، ومن ثم
فإن إعفائهم من الخدمة يعد من صور عدم المساواة في المجتمع الإسرائيلي، وأيضا
تأثيرهم على بنية الجيش الإسرائيلي طالما أن أعدادهم تزايدت بشكل كبير، والأمر
اختلف عما كان عليه إبان تأسيس الكيان الإسرائيلي".
وواصل حديثه لـ
"عربي21" بالقول "وهو أيضا ضغط اقتصادي
مضاعف لأن الشاب الإسرائيلي يبدأ بالخدمة الإلزامية من عمر 18- 21 سنة، وبالتالي
يحتاج فيما بعد إلى نوع من التأهيل للانخراط في سوق العمل، بينما يتفرغ الطالب
الحريدي لدراسة التوراة طول حياته، وهذا الأمر له ثقل اقتصادي كبير على الكيان
الإسرائيلي بالنظر إلى الأعداد الكبيرة المتزايدة ديمغرافيا للشريحة الحريدية وهو
أمر مختلف عما كان عليه عند تأسيس الكيان".
ولفت عرابي إلى أن "الجدل بشأن إعادة النظر في قانون إعفاء
الحريديم ازداد بقوة بعد الحرب على غزة، فهي حرب غير مسبوقة بطولها وحجمها وما
تفرضه من خطر وجودي ومصيري كما يصفه قادة الكيان، فالجيش الإسرائيلي منهك وبحاجة
إلى تعزيزه بعناصر شابة جديدة، لتعويض الخسائر في قتلى الجيش، والمصابين بإصابات
مستدامة بين الجيش ويخرجون عن الخدمة العسكرية، ومنهم من أصيب بحالات نفسية صعبة
تحتاج إلى علاج وتأهيل نفسي".
وبدوره ذكر الرئيس السابق للحركة الإسلامية ـ الشق الجنوبي في الداخل
الفلسطيني، إبراهيم صرصور أن "قضية تجنيد الشباب الحريديم ظهرت على السطح
بشكل سافر و(ساخن) وغير مسبوق في ظل أحداث السابع من أكتوبر، والحرب الإسرائيلية
الوحشية على قطاع غزة التي تلتها، والخسائر التي يتكبدها جيش
الاحتلال خصوصا في
أوساط الضباط والجنود العلمانيين".
إبراهيم صرصور الرئيس السابق للحركة الإسلامية ـ الشق الجنوبي في الداخل الفلسطيني
ووفقا لصرصور فإن "مسألة تجنيد الحريديم حاليا ـ بلا مبالغة ـ
تمزق الدولة، إذ يتخذ فيها أطراف النزاع مواقف حادة أدت إلى حالة من الاستقطاب
الذي يهدد النسيج الرخو لمكونات المجتمع الإسرائيلي من جهة، ويهدد استمرار حكومة
نتنياهو الأكثر تطرفا في قيادة الدولة من جهة أخرى".
وتابع لـ
"عربي21": "فمن ناحية يتظاهر (المتزمتون)
ويهتفون (سنموت ولن نجند)، ومن ناحية أخرى هناك من يريد دخول المدارس الدينية
بالدبابات، وتجنيد الطلاب الحريديم الشباب بالقوة"، مستبعدا أن "تتمكن
الأطراف المتنازعة من الوصول إلى حل لهذه المعضلة، فما زالت الأغلبية الساحقة
للتيارات الحريدية تؤمن إيمانا عميقا بأن دورها لا يقل عن دور الجيش، بل هي أكثر
أهمية في حفظ الهوية اليهودية للدولة، وهو الضامن ـ حسب رؤيتهم لبقاء إسرائيل، وأن
أي تغيير في هذا الوضع سيؤدي حتما إلى زوال الدولة".
وختم كلامه بالإشارة إلى أنه "بالرغم من وجود أصوات متدينة
متزمتة تطالب بضبط النفس والبحث عن حلول وسط تكون مقبولة للجميع، إلا إنها ما تزال
أصواتا ضعيفة يرفضها التيار المتدين المتزمت (الحريدي)، ويعتبرها (خارجة) عن
الدين، وعدوة للدين اليهودي".