منذ السابع من أكتوبر 2023 لا تسمع في إعلام
المحتل وإعلام حلفائه كلمة (
احتلال أو استعمار!).. وهذا التحيل العنصري الواسع
مستمر منذ نكبة الشعب
الفلسطيني عام 1947 بإنشاء كيان يهودي (كما سماه اللورد
بلفور) وزير خارجية بريطانيا عام 1917 ولم يكتب مصطلح (دولة إسرائيلية).. وحتى
عندما اعترف القانون الدولي من خلال منظمة الأمم المتحدة بأن حالة فلسطين هي حالة
استعمار شعب لشعب آخر، بدأت عملية تعويض القانون الدولي بقانون أمريكي أصبح هو
الذي يقرر "الحقوق" ويعلن الحدود ويسن العقوبات.
وهكذا في كنف نظام استعماري جديد نعتوه
بالعالمي نكتشف أن سبيل
المقاومة للمحتل يبقى فرض عين على أمتنا شعوبا وحكومات مع
الإلحاح على أن فلسطين ترزح تحت نير آخر استعمار في العالم!
وعنوان مقالي هذا هو ما قاله الزعيم بورقيبة
في خطابه الشهير في مخيم أريحا الفلسطيني يوم 5 مارس 1965 حين دعا فيه اللاجئين
تحت الخيام إلى تغيير أساليب مقاومتهم لما سماه بورقيبة "آخر استعمار بعد
تحرير الجزائر".. وكان الزعيم التونسي متأثرا بأوضاع الفلسطينيين ويعتبرها
نتيجة السياسات الناصرية والبعثية الشعبوية التي تحركها الحماسة ولكن تفتقد إلى
عقل ومنطق وتخطيط..
ثم تحولت سياسات جامعة الدول العربية منذ
أمينها العام المؤسس عبد الرحمن عزام باشا إلى أمينها العام الراهن إلى ظاهرة
صوتية وجعجعة بلا طحن والزعيم بورقيبة الذي قارع الاستعمار الغاشم على مدى أربعين
عاما أخذ في الاعتبار دائما واقع اختلال توازن القوى. المهم لدينا نحن العرب ألا
نظل غافلين مغفلين بينما يشتد بأس اليمين العنصري المتطرف ضد فلسطين كما هو شأن
حكومة نتنياهو المتحالفة مع العنصري بن غفير والأحزاب اللاهوتية.
تقول أخبار غزة هذه الأيام: "وبحسب
حصيلة أعدتها وكالة فرانس برس: قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 30 ألف شهيدا منذ
طوفان الأقصى وإصابة 70 ألف نصفهم من الأطفال الأبرياء والحرائر في بيوتهن والشيوخ
والمرضى في المشافي مع بلوغ عدد الصحفيين الضحايا 130 وهو يفوق بضعفين عدد ضحايا
الصحافة خلال الحرب العالمية الثانية!! كما قتل المحتلون 170 من موظفي الأونروا
و140 من الأطباء والممرضين والمسعفين!
ورفع العنصريون وأعداء فلسطين والإسلام
شعارات تزوير مفادها أن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها"! يعني أننا
كما تكهن بورقيبة منذ 60 سنة نصارع استعمارا يعتبر الأخير في العالم! أو اعتقدنا
أنه الأخير!
وفي قلب أحداث المقاومة المشروعة التي تعصف
هذه الأيام في أرض فلسطين سطع الأمل بميلاد حركات مقاومة جديدة لم يتعود عليها
الاستعمار غير الشرعي، يحضرني أكثر من أي وقت مضى مثال تحرير الجزائر العربية
المسلمة من طاغوت استعمار استيطاني أوحش وأخطر من أي استعمار! وكأن أحداث فلسطين
اليوم هي ما كنا نتابعه على أمواج إذاعة (صوت الجزائر) من تونس أعوام 1956 وما
بعدها.. وكان الزعيم بورقيبة قال في (مارس) 1965 بأن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين
هو واقع استعماري وأنه آخر استعمار في التاريخ الحديث..
في قلب أحداث المقاومة المشروعة التي تعصف هذه الأيام في أرض فلسطين سطع الأمل بميلاد حركات مقاومة جديدة لم يتعود عليها الاستعمار غير الشرعي
ثم إن الاعتبار بالتاريخ القريب أمر ضروري
ونحن نعيش مخاض الحرية وصحوة الإسلام في فلسطين لأن التاريخ قدم لنا النموذج
الجزائري وهو مثال حي قائم أمامنا، فالجزائر استقلت عام 1962 بعد ثورة شعبية عارمة
تفاعل معها جيلي وآمن بها وتعلق بنصرتها وعاشها بتفاصيلها يوما بيوم على الأنغام
الرجولية الصامدة لنشيد الثورة الذي كتبه المرحوم الشاعر مفدي زكرياء: "قسما
بالصاعقات الماحقات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا الله
أكبر فوق كيد المعتدي… الخ".
ما أشبه الجزائر بفلسطين وما أشبه ثورتها
الراهنة بأحداث مماثلة عاشتها شوارع القصبة وشارع ديدوش مراد وعنابة ووهران وجبال
الأوراس..
لكن وجه الاختلاف واضح في التعامل العربي
الإسلامي مع الثورة. فالجزائر ابتليت باستعمار استيطاني عنصري فرنسي عام 1830 وقام
فيها الأمير الشاعر عبد القادر مثلما قام في فلسطين الشيخ المجاهد الشهيد عز الدين
القسام لأن الجزائر بعكس تونس والمغرب اللتين كانتا "محميتين" حسب
مصطلحات فرضها الاستعمار الدموي عليهما ربما لإيهام الشعبين بأنهما "تحت
حماية فرنسا" وكأنهما نصف مستقلتين.. وندرك اليوم في سنة 2024 أن فرية
(الاستعمار حماية) ما تزال تعشش في عقول بعض الحكام العرب المتمكنين في تسيير
مصائر شعوبهم بفضل أدوات الاستعمار ذاتها فيبرؤون مستعمر أوطانهم وناهب خيراتهم ومبيد
أبريائهم فيسمونهم (حماة) لأن الاستعمار بشكليه القديم و الجديد يحميهم هم و يؤمن
لهم كراسيهم المؤبدة!
ونفس الحكام يسمون المقاومين الشرفاء
بالسلاح (فلاقة.. يعني قطاع طرق! إلى اليوم كما في الشمال الافريقي أو إرهابيين
ومخربين كما في فلسطين) أما الجزائر فقد تحملت وحدها كارثة الاستعمار الاستيطاني
حين تحولت عام 1832 إلى مقاطعة فرنسية عمل الاستعمار على طمس هويتها وتمت
(فرنستها) مثلما فعلت سلطات الاحتلال الصهيوني مع فلسطين!
وللتاريخ لم يعد بعد هزيمة الأمير عبد
القادر عام 1846 هناك كفاح مسلح فاعتقد الاستعمار الفرنسي أن فرنسة الجزائر تمت
بنجاح مثلما اعتقد الاستعمار الإسرائيلي أنه "صهين" فلسطين وأتم
تهويدها! ولكن روح الجزائر عادت بلظى العروبة والإسلام على أيدي زعماء جمعية
العلماء المسلمين أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي، ثم
اندلعت شرارة الثورة المسلحة عام 1954 مثلما انطلقت ثورة فلسطين على يد "فتح"
ثم استمرت جذوتها على أيدي "حماس" والجهاد..
لكن لماذا اختلف تعامل الجيران العرب مع
ثورة الجزائر ومع ثورة فلسطين وبين الثورتين نشأ جيل عربي مسلم تعلم بأن التاريخ
لا يعيد نفسه ولا يكرر أحداثه لكننا لا بد أن نقرأ الأحداث لنعتبر..
لا يمكن أن ينسى أي عاقل تضحيات إخوتنا المشارقة إلى جانب فلسطين فقد خاضت مصر وسوريا والأردن ولبنان حروبا معروفة وهبّ العرب أجمعين ولم يترددوا في نصرة فلسطين انطلاقا من أن قضية القدس هي قضية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
وجدت ثورة الجزائر من جمال عبد الناصر
نصيرها الكبير باسم القومية العربية، وقد قال لي وزير الخارجية الفرنسي الأسبق
مهندس العدوان الثلاثي على مصر (كريستيان بينو) حرفيا: لقد قمنا بالعدوان الثلاثي
لمعاقبة عبد الناصر على تأييده للجزائر.. جاء ذلك العدوان بأيدي (كرستيان بينو) عن
فرنسا و(أنتوني ايدن) عن بريطانيا و(بن جوريون) عن إسرائيل.. كما وجدت الجزائر
نصرة أخوية من تونس وعوقبت تونس بوابل من القنابل على قرية ساقية سيدي يوسف يوم 8
فبراير 1958.. كما عوقبت تونس لمناصرتها لقضية فلسطين عندما اعتدت الطائرات
الإسرائيلية على مقر المنظمة بحمام الشط يوم 1 أكتوبر 1985.. ووجدت ثورة الجزائر
كذلك مناصرة المغرب وملكها الراحل المغفور له محمد الخامس وكانت الأسلحة بأنواعها
تعبر حدود الجزائر وتصل إلى المجاهدين ولم تتخلف لا تونس ولا المغرب ولا ليبيا عن
واجبها المقدس لتزويد الثورة بالسلاح.. وجرى الدم المغاربي هنا وهناك رمزا من رموز
الوحدة والصمود.
وبالطبع لا يمكن أن ينسى أي عاقل تضحيات
إخوتنا المشارقة إلى جانب فلسطين فقد خاضت مصر وسوريا والأردن ولبنان حروبا معروفة
وهبّ العرب أجمعين ولم يترددوا في نصرة فلسطين انطلاقا من أن قضية القدس هي قضية
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. لكن وجه الاختلاف بين مثال الجزائر ومثال
فلسطين هو ما حدث من تداعيات استراتيجية إقليمية ودولية حالت دون تواصل النصرة
بدعوى إنجاح عملية السلام.. فعاد أبو عمار إلى جزء ضئيل من الأرض المحتلة وتم
تأجيل كل الملفات الساخنة إلى أجل غير مسمى وأهمها ملف القدس وملف اللاجئين وإقامة
الدولة… وأصبحت كل حدود الدول العربية حدودا آمنة لإسرائيل دون أن تتفاعل إسرائيل
بإيجابية مع ما سمي بخيار السلام العربي بعد أن تأكدت إسرائيل من أن خيار المقاومة
تم إسقاطه وإجهاضه مما يجعل (السلام) استسلاما ولم تهب حركة طوفان الأقصى إلا بعد
اليأس التام من أوهام السلام المغشوش واكتشاف حقيقة إسرائيل والغرب الصليبي
المتمثلة في تصفية القضية الفلسطينية نهائيا!