بعد أن ظهرت حقيقة وحجم ما حدث في 7 تشرين الأول، أكتوبر
(طوفان الأقصى) سارعت أمريكا/ الغرب بعد الإدانة بالطبع؛ إلى التحذير الفوري لكل دول
المنطقة، بعدم استغلال الوضع الذي نشأ بعد الطوفان والتدخل في المعركة، وكان
تحذيرا نهائيا، وأكدته بقدوم حاملات الطائرات (فورد وآيزنهاور) إلى المنطقة لتؤكد
أنها جادة في تحذيرها.
والمشكلة التي قدرتها أمريكا وحلفاؤها؛ لم تكن فقط في
الجبهات الساخنة التي كان يُحسب حسابها (إيران ولبنان والعراق واليمن)، بل من
الجميع في دول المركز الشرق أوسطي، التي يختلف الموقف الرسمي فيها كثيرا عن الموقف
الشعبي، فالتداعيات في هذه الأوقات تخرج عن كل التوقعات والتقديرات، والبجعة
السوداء تظهر أحيانا وبما يفاجئ الجميع..
* * *
والأهم، أن الفراغ العميق يملأ المنطقة كلها، وفراغا من
كل نوع في حقيقة الأمر، وبطريقة الإعصار الاستراتيجي، فمن المحتمل جدا أن تجد
المنطقة كلها في لحظة (10 حزيران/ يونيو 1916م) ولكن بالطريقة العكسية.
المشكلة التي قدرتها أمريكا وحلفاؤها؛ لم تكن فقط في الجبهات الساخنة التي كان يُحسب حسابها (إيران ولبنان والعراق واليمن)، بل من الجميع في دول المركز الشرق أوسطي، التي يختلف الموقف الرسمي فيها كثيرا عن الموقف الشعبي، فالتداعيات في هذه الأوقات تخرج عن كل التوقعات والتقديرات
وهو اليوم الذي اندلعت فيه "الثورة العربية الكبرى"
ضد الخلافة العثمانية، بتحريض الغرب الاستعماري، تمهيدا لفرض الخريطة العربية
الجديدة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1918م)، الخريطة التي يحميها الغرب
الاستعماري الآن بإسرائيل، والتي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو في 3 كانون الثاني/ يناير
1916م، والتي هي في الواقع الحالي المتململ المهتز تعتبر منتهية الصلاحية تقريبا
(108 سنة)، لكنهم إلى الآن في حيرة عما يمكن أن تؤول اليه هذه الخريطة.
* * *
وكلنا نتذكر نصيحة فيلسوفهم الخطير برنارد لويس (ت: 2018)
بضرورة الإسراع في التقسيم والتفتيت لكل المنطقة، وكذب على نفسه وعلى الأمانة
العلمية والتاريخية، وقال: من يقول إن هذه المنطقة تجمعها جوامع استراتيجية واحدة
(اللغة والتاريخ والدين والجغرافيا) فهو كاذب.. برنارد كذب كذبته تلك ومات.
لكن فكرة التقسيم والتقطيع والتجزيء بدا من مقاربتها
للواقع أنها قد تكون غير قابلة للاستمرار الطويل، فهذا ضد واقع الأمور التي تحكمها
سنن تاريخية وحضارية ثابته، وتجربة جنوب السودان رغم افتعالها؛ تجربة هشة.
وسوريا والعراق وليبيا حالات لا تبدو قابلة للتقسيم، حتى
الآن على الأقل، بل من الممكن أن تأخذهم حروبهم الداخلية إلى الدخول في "كتلة
تاريخية" تحمي اختلافهم في صلب وحدتهم، بعدما شعر الجميع بعبثية القتال
الأهلي.
لكن الغرب بالطبع، وبالتعاون مع "العملاء الحضاريين"
له كما سماهم المفكر القبطي العروبي د. أنور عبد الملك (ت: 2012م)، أو الصهاينة
العرب كما سماهم الناس بعد "طوفان الأقصى".. سيمنع تكون تلك الحالة..
* * *
كما أن الدور الشعبي الغائب لن يطول غيابه، بل سيكون هو
الرقم الصعب في الحالة الواعدة الصاعدة بعد الطوفان، وهو الأمر الذي يحاول الجميع
السيطرة عليه وإحكام غلق أي باب يفتح من ناحيته، دينيا كان هذا الباب أم إنسانيا
وأخلاقيا.. فلا مكان لربط أحداث
غزة بالمسجد الأقصى، ولا مكان لربطها بنخوة الشعور
الإنساني المجرد والخالي من أي علائق تاريخية وحضارية، كما رأينا حتى في دول
أمريكا اللاتينية وبعض الدول الأوروبية، ناهيك عن الخطوة الواسعة التي اتخذتها
دولة كجنوب أفريقيا فأقامت الدنيا وملأتها بأصوات لم يعتد سماعها أحد من قبل.
إذن فالأمر لدى دهاقنة السياسة وسدنة المعبد الغربي
العتيق لن يخرج عن حلين: إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، أو توفيق الأمور وضبطها
على مصالحهم.
لكن المفكر المغربي د. عابد الجابري (ت: 2010م) تساءل في
مقال مهم له قبل وفاته: "لمن سيسلم الأمريكان السلطة غدا؟". وأضاف: من
صاغ الشرق الأوسط الحالي؟ أوروبا في صراعاتها الداخلية، والتي كان الشرق الأوسط
موضوعها الأساسي، أي الاستعمار البريطاني والفرنسي والذي غرز إسرائيل في خاصرته.
لكن أمريكا كما يقول لنا، تختلف مصالحها، مع مصالح
أوروبا التي شكلت الشرق الأوسط الحالي، وهذا ما نسمعه الآن -مثلا- على لسان جوزيب
بوريل، المنسق الأعلى للشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبي.. والذي اندهش من تصريح
الرئيس الأمريكي بأن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة "تجاوز الحد"، فقال
ساخرا: حسنا، إذا كنت تعتقد أن عددا كبيرا جدا من الناس يُقتلون، ربما يجب عليك
إرسال أسلحة أقل من أجل منع قتل هذا العدد الكبير من الناس..!!
حين تأكد الغرب وفي القلب منه أمريكا، أن ما كان يحذره ويخافه لن يحدث، على الأقل الآن، سُحبت فورا حاملات الطائرات، وبدأ التلاعب ذات اليمين وذات الشمال، بغرض الانفراد بالحالة "الطوفانية" وكسرها مبكرا، وهي الحالة التي أعطت اللحظة التاريخية ما كان ينقصها
سننتبه أن روسيا والصين تنظران إلى المسألة نظرة ذاتية،
مركبة وبعيدة، نظرة لا تخلو من الدهشة والتساؤل.
وماذا عن إيران في هذا الذي يجري وجرت هي معه؟ ولماذا
منعت حلفاءها من الدخول المباشر في "طوفان الأقصى"؟
* * *
حين تأكد الغرب وفي القلب منه أمريكا، أن ما كان يحذره ويخافه
لن يحدث، على الأقل الآن، سُحبت فورا حاملات الطائرات، وبدأ التلاعب ذات اليمين
وذات الشمال، بغرض الانفراد بالحالة "الطوفانية" وكسرها مبكرا، وهي
الحالة التي أعطت اللحظة التاريخية ما كان ينقصها "الإسلام/ المبادرة/
القدرة/ الجرأة". لكنها لم تنكسر! ومهما اجتمعت خيوط التآمر وتلاقت، في هذا
الوقت الضائع، فالجميع يعلم أن أهلنا في غزة لن يغادروا، فقد مضت تلك الأيام وأنقضت.
شهود القرن الصابرون الصادقون على دراية تامة بما يجرى
ويحدث ويتشكل ويتكون، وربما من اليوم الأول للطوفان، وهم بصبرهم وثباتهم يطوون صفحة
كالحة من صفحات تاريخهم وتاريخنا الذي كُتب يوما ما، بعيدا عن أعيننا وأيدينا. وهم
يعلمون قبل الجميع، أنها الآن مرحلة الثبات الصلب وكسر العظام، فلا مجال إطلاقا
لما كان من قبل، فليكن إذن ذلك.
twitter.com/helhamamy