شاعر فلسطيني رحّال بين موانئ اللجوء، استقرّ به المقام في غزة،
وارتبط بها، وعاش وبنى نشاطه الثقافي والوظيفي في وزارة الثقافة فيها، ولم
يتركها.. وحين اندلعت هذه الحرب، أطلق نداءه الأخير قبيل استشهاده:
"نداء نداء، لمن يسمع أو يرى، من أمّة فقدت مكونات الكرامة
والرجولة والإباء. نداء نداء، إن إسرائيل الدخيلة على مكوّنات أرضنا وتاريخنا،
تستبيح دمنا، وتهتك سكون ليلنا بوقاحة قلَّ نظيرها، بينما الصمت العربي والدولي
يمارس رياضة صمت مريب، معبّراً عن خيانة القِيَم الإنسانية والقومية.
إن غزّة اليوم وجنوب لبنان يشكّلان متراس الدفاع الأول عن كرامة
الأمة وصدّ أحلام الغزاة بالتوسّع، وهذا مُحال.
ستؤكلون تِباعاً تِباعاً، وغزة لا تطلب منكم تحريك الجيوش، فقط
أوقفوا نفطكم، لتأتي أوروبا الوقحة صاغرة لكم.
نداء نداء، "هل تفعلون قبل فوات الأوان؟!"
إنه الشاعر سليم مصطفى النفّار الذي أرسل هذه الرسالة إلى صديقنا
المشترك حمزة البشتاوي في لبنان، وأكد له بمعنويات عالية: باقٍ في مكاني، لا أخاف
المجرمين الهمج.
وبعد أيام، وبالتحديد في 7 كانون الأول (ديسمبر) 2023، استشهد الشاعر
والكاتب سليم النفّار، واستشهد معه زوجته وبناته وابنه الوحيد مصطفى وأخته وزوجها
وأولادها في غارة على بيتهم في حي النصر، مختتماً ترحاله على أرض فلسطين، وتحديداً
غزة.
وهذا عهد فلسطين به، ناشط متشبث بأرضه ومكانه.. وهو كما أخبرني
البشتاوي رداً على سؤالي عن شاعرنا: إنهما كأصدقاء قدامى منذ الثمانينيات شكلا في
مخيم الرمل باللاذقية لجنة مع عدد من المثقفين الفلسطينيين أقامت الفعاليات
الوطنية الثقافية، والندوات وجلسات المثاقفة. كانوا خمسة يجمعون حولهم المهتمّين،
فيقرأون ويحللون كل أسبوع كتاباً يلخصونه ويناقشونه.. فيختلفون ويتباعدون وتتباين
آراؤهم.. إلا أنهم جميعاً كانوا متفقين على مبدأ المقاومة، مهما جنح الوضع السياسي
إلى "السلام".
من هو سليم النفار؟
هو كاتب وشاعر تعود جذوره إلى حي العجمي في مدينة يافا، لجأ أهله إلى
قطاع غزة بعد النكبة عام 1948، وولد سليم في غزة، وتحديداً في مخيم الشاطئ للاجئين
في عام 1963.
في عام 1967 اعتقل الاحتلال والده مصطفى النفّار بسبب نشاطه في
مساعدة ضباطٍ مصريين على الانسحاب بحراً بعد احتلال غزة، وأَبعده إلى الأردن عام
1968. وما لبث أن غادر الأردن بسبب أحداث أيلول (سبتمبر) 1970 إلى سورية ملتحقاً
بالقوات البحرية الفلسطينية، واستقرّ بهم المقام في مخيم الرمل في محافظة اللاذقية
السورية، حيث عاش الشاعر سليم النفار هناك.
في مخيم الرمل، تلقّى تعليمه من المراحل الابتدائية والإعدادية، ثم
انتقل ليدرس الأدب العربي في جامعة تشرين في سورية. وهناك شكّل ملتقى «أبو سلمى»
السنوي للمبدعين الشباب في الجامعة عام 1986.
لم تمهل الحياة والده الذي استشهد في العام 1973 في لبنان، في مواجهة
بحرية مع الاحتلال، وكان أثر ذلك واضحاً في حياة الشاعر وكتاباته لاحقاً.
كتب الشعر مبكّراً، ونشط ثقافياً وسياسياً في المؤسسات الفلسطينية
التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. فعمل محرراً أدبياً في مجلة "نضال الشعب"،
ومحرراً في مجلة "الزيتونة"، وكذلك مجلة "الأفق".
قبل العدوان على غزة، كان الشاعر الوحيد الباقي على قيد الحياة من
الذين تُدرَّس أشعارُهم في المدارس الفلسطينية، حيث اعتُمدت قصيدته الشهيرة "يا
أحبائي" في منهاج التعليم للصف التاسع الأساسي الجديد ابتداءً من العام
الدراسي 2017-2018..
عاد إلى غزة بعد اتفاق أوسلو، وعمل مديراً في وزارة الثقافة
الفلسطينيية حتى استشهاده. في غزة، كان عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء
الفلسطينيين، وساهم في تأسيس جماعة "الإبداع الثقافي" عام 1997. شارك في
عدد من المهرجانات الشعرية الفلسطينية والعربية والعالمية في الشرق والغرب.
مؤلفاته:
في الشعر، له سبعة إصدارات شعرية:
ـ "تداعيات على شرفة الماء"، القدس،
1996.
ـ "سور لها"، غزة، 1997.
ـ "بياض الأسئلة"، رام الله، 2001.
ـ "شرف على ذلك المطر"، القدس، 2004.
ـ "حالة وطن"، الأردن، 2014.
ـ "الأعمال الشعرية الناجزة"، رام الله، 2016.
ـ "حارس الانتظار"، غزة، 2021.
في النثر:
ـ "هذا ما أعنيه.. سيرة ذاتية"، رام الله، 2004.
ـ "غزة 2014"، حيفا، 2017
ـ "فوانيس المخيم"، حيفا، 2018.
ـ "ذاكرة ضيقة على الفرح - سيرة ذاتية"، حيفا، 2020.
ـ "ليالي اللاذقية"، حيفا، 2022.
نماذج من شعره:
يا أَحبَّائي (هذه القصيدة تدرَّس في المنهاج التعليمي الفلسطيني)
يا أَحبَّائي
سنأتي ذات يومٍ يا أَحبّائي
إلى أشيائنا الأولى
فلا قتلٌ يُبَاعِدُنا
ولا زمنٌ سيُنسينا
هنا في غامضِ الأَوقات
وضوحُ الحقّ يُعلينا
ويُعطي حلمنا سنداً
لتاريخ..
بأيام تؤاخينا
سنأتي ذات يومٍ يا أَحبّائي
فإنَّ الوجدَ مُلْتَهبٌ
ونارُ القهرِ تُدْمينا
هنا كمْ ساقني دربٌ
بعينِ الطفلِ يحكينا
رواياتٍ..
عَنِ التشريد للمنفى
وعن أحزانِ حادينا؟!
ولكنْ: وعدُه باقٍ
بأَنْ نأتي
ولو طالت ليالينا
هنا حيفا وناصرةٌ
هنا يافا
تمس القلبَ في سحرٍ
ونهرُ العينِ يُعطينا:
مراراتٍ، وأَنَّاتٍ،
لأيامٍ تناجينا
هنا كمْ هزّنيْ شوقٌ
لأصحابٍ
وألعابٍ
وحاراتٍ تنادينا؟!
سنأتي ذات يومٍ يا أحبائي
على مهلٍ يقولُ الحقُّ قولتهُ
فلا تستأخروا حُلْماً
ولا تستعجلوا حينا
فكم في دارنا ركناً
على الأيام،
مرهوناً بماضينا؟!
هنا لم يُقصهِ زمنُ
وآلتهمْ:
جنونُ الشرّ، لم تسحقْ مرامينا
فَعِطْرُ الحقّ، في أرواحنا باق
ولو طالت مسالكنا
ولو جُنّتْ مآسينا
على مهلٍ سيأتينا
غـــــزة
وعلى خيامٍ في الطريقْ
عَلَّقتُ وشمكِ نجمةً
ورسمتُ للحادي،
مسالكَ من عقيقْ
فعلى رقيقِ القلب أحرفكِ التي...
دلّتْ غريقاً في الغريقْ
إنَّ الذي بيني، وبينكِ بائنٌ
مهما تداعتْ في ثنايانا الحريقْ
إنّ الذي بيني وبينكِ:
رملُ ألعابي، وظلّ أبٍ هنا
ما زال يطلعُ لو مضى
فهُنا على نعشِ المكانِ نما،
كأعشابِ الطريقْ.
*كاتب وشاعر فلسطيني