انخفضت أرباح صناعة السيارات 5 في المئة، في حين ارتفعت أرباح شركات الشحن 7
في المئة، وعاد شبح التضخم والفائدة المرتفعة في أوروبا وأمريكا والعالم إلى الواجهة، بعد أن ارتفعت كلف الشحن بنسبة تقدر بين 200 إلى 300 في المئة، وتضاعفت تكلفة شحن
الحاويات من الصين إلى البحر الأبيض المتوسط 4 أضعاف ما كانت عليه أواخر تشرين
الثاني/ نوفمبر الماضي، بحسب شركة "فريتوس" (Freightos)، وهي شركة
لحجوزات شحن البضائع.
الاضطراب الذي أصاب الأسواق، جاء بعد تنفيذ حركة أنصار الله الحوثية وعودها
بوقف تجارة السلع والشحن الخاصة بالكيان
الإسرائيلي عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر؛
في حال لم يرفع الحصار على قطاع غزة ولم تقدم الإغاثة الإنسانية، غير أن ردة الفعل
الأمريكية والبريطانية قادت إلى تصعيد برفضها رفع الحصار عن قطاع غزة؛ ودعمها
المطلق للكيان الإسرائيلي لمواصلة الإبادة الجماعية التي باتت محور اهتمام العالم، الذي
ينتظر قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي المستعجل حولها اليوم الجمعة.
المخاوف من التضخم وارتفاع كلف الشحن سار بالتوازي مع هذه التطورات، إذ أضافت
التوترات في البحر الأحمر 40 في المئة للمسافة التي تقطعها سفن الشحن بعد تغير
مسارها عن البحر الأحمر؛ لترتفع كلف نقل النفط ومشتقاته 3 أضعاف في شمال أوروبا؛ و180
في المئة في آسيا والصين بسبب تغيير الناقلات مسارها بعد العمليات العسكرية الأمريكية
البريطانية.
مساحات شاسعة يصعب السيطرة عليها من خلال مجموعة قتالية أمريكية متناثرة تتعرض لعمليات تشويش وحروب سيبرانية وإلكترونية من قبل خصومها في المنطقة والعالم، مع توقعات بانضمام خصوم جدد للمعركة من الصومال على سبيل المثال.
تحالف هزيل
تكرست المخاوف وتضاعفت بعد إرسال الولايات المتحدة المجموعة القتالية
لحاملة الطائرات داويت أيزنهاور إلى بحر العرب والبحر الأحمر ومضيق باب المندب،
تحت عنوان "عملية حارس الازدهار" التي شكلتها من عشر دول كان الفاعلان فيها
أمريكا وبريطانيا؛ لإحباط وتعطيل العمليات التي تقودها جماعة أنصار الله.
وهو تحالف متواضع وهزيل إذا ما تم قياسه بمساحة المعركة البحرية التي
اختارت أمريكا وبريطانيا القتال فيها؛ إذ تمتد على مساحة 3 ملايين و800 ألف كم
مربع، تمثل المسطح المائي لبحر العرب، وما يقارب 410 ألف كم مربع لخليج عدن، و440 ألف
كم مربع للبحر الأحمر، أضيف إليها بعد الهجمات الأمريكية والبريطانية على البر
اليمني 550 ألف كم مربع تمثل مساحة اليمن؛ ويتوقع أن ينضم إليها 180 ألف كم مربع
مساحة المسطح المائي لخليج عُمان و250 ألف كم مربع للخليج العربي.
مساحات شاسعة يصعب السيطرة عليها من خلال مجموعة قتالية أمريكية متناثرة، تتعرض لعمليات تشويش وحروب سيبرانية وإلكترونية من قبل خصومها في المنطقة والعالم،
مع توقعات بانضمام خصوم جدد للمعركة من الصومال على سبيل المثال، وهي تهديدات دفعت
وزير الدفاع البريطاني شابس ورئيس الأركان البريطاني إلى سحب حالة الطائرات
البريطانية كوين إليزابيث؛ خشية تعرضها لضربة مباشرة كبديل أقل كلفة لحوثين من
استهداف حاملة الطائرات الأمريكية أيزنهاور.
التصعيد مقابل التصعيد
الموقف في البحر الأحمر تطور عقب تمرير قرار مجلس الأمن بإدانة عمليات
الحوثيين في البحر الأحمر وفرض عقوبات على الجماعة، ما فتح الباب لمزيد من التصعيد
الذي أفضى لهجمات أمريكية وبريطانية داخل الأراضي اليمنية، شملت مواقع في صنعاء
والحديدة وتعز ومحافظة حجة وصعدة، ما دفع الحوثيين في المقابل لاستهداف السفن التي
تحمل العلم الأمريكي، تبعه هجمات على سفن الشحن العسكرية الأمريكية؛ التي تقدم
الدعم اللوجستي للمجموعة القتالة الأمريكية والقواعد المنتشرة في المنطقة الممتدة
من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، وكان أبرزها سفينة النقل الثقيلة "USS Ocean Jazz".
استنفدت بريطانيا وأمريكا كل السبل لردع وتعطيل قدرات الحوثيين، فاستراتيجيتها
المعلنة التصعيد مقابل التصعيد، رد عليها الحوثيين على لسان نائب وزير خارجيتهم حسين
العزي بخفض التصعيد مقابل خفض التصعيد، بمعنى التوقف عن استهداف السفن والقطع
البحرية الأمريكية، والاكتفاء بملاحقة سفن الشحن التي تنقل البضائع إلى الكيان الإسرائيلي،
وهو ما لم تقبله الولايات المتحدة، لتبلغ المعركة البحرية ذروتها يوم الخميس (25 كانون
الثاني/ يناير)، باستهداف سفينة حربية أمريكية بضربة مباشرة خلال مرافقتها لسفينتي
شحن تحملان العلم الأمريكي، وهو تطور جديد ردت عليه الولايات المتحدة سريعا بفرض
مزيد من العقوبات على جماعة الحوثيين، الأمر الذي لا يُتوقع أن يترك أثرا على
صنعاء التي أجبرتهم على القتال في عمق أمريكا الاستراتيجي حيث لا يجب أن تقاتل.
أمريكا تقاتل في عمقها الاستراتيجي
لم يحدث أن خاضت أمريكا حربا بهذا الاتساع في المنطقة، فغزو أمريكا لأفغانستان والعراق اقتصر على الجغرافيا الداخلية للبلدين، وكانت القواعد الأمريكية والبحار والخلجان هي العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية وظهيرا لقواتها الغازية، وهو عمق تحول إلى ساحة معركة بشكل استثنائي، أفقد أمريكا ميزتها الاستثنائية، بل إن قواعدها العسكرية باتت مهددة بالاستهداف المباشر، أو بالحرمان من الدعم اللوجستي القادم مما وراء البحار.
لم يحدث أن خاضت أمريكا حربا بهذا الاتساع في المنطقة، فغزو أمريكا لأفغانستان والعراق اقتصر على الجغرافيا الداخلية للبلدين، وكانت القواعد الأمريكية والبحار والخلجان هي العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية وظهيرا لقواتها الغازية، وهو عمق تحول إلى ساحة معركة بشكل استثنائي، أفقد أمريكا ميزتها الاستثنائية، بل إن قواعدها العسكرية باتت مهددة بالاستهداف المباشر، أو بالحرمان من الدعم اللوجستي القادم مما وراء البحار.
المعركة امتدت إلى ما هو أبعد من البحر الأحمر، فبلغت البحر المتوسط
باستهداف "ميناء اسدود" الإسرائيلي الذي يقع إلى شمال قطاع غزة، بضربة
مباشرة من العراق، وقد سبقه بأسبوع إعلان مماثل، باستهداف المقاومة الإسلامية في
العراق لميناء حيفا بصاروخ مجنح؛ فضلا عن تعرض ميناء إيلات على خليج العقبة لهجمات
متكررة تعددت مصادرها، وهو ما استبقته شركات صينية بوقف رحلاتها إلى الميناء الذي
تعد الصين شريكا في تطويره.
معركة البحار العربية تتخذ بهذا المعنى بعدا استراتيجيا أمريكيا، فأمريكا
تخوض معركتها في عمقها الاستراتيجي الذي طالما اعتبرته ميزة لما بعد الحرب
العالمية الثانية؛ حققت من خلالها نبوءات الاستراتيجي الأدميرال ألفريد ماهان (1840-
1914)، وزير حربيتها وقائد أساطيلها أوائل القرن الماضي، وهي استراتيجية عززتها
بقواعد منتشرة في أكثر من 100 دولة بكلفة تقدر 55 مليار دولار سنويا، وبأسطول بحري
يضم أكثر من 11 حاملة طائرات عملاقة.
اختبار استراتيجي
معركة أمريكا انقلاب استراتيجي من تفاؤل بإدماج الكيان الإسرائيلي وإعلان النصر بالضربة القاضية قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، إلى قتال في البر والبحر للدفاع عن النفوذ الأمريكي؛ قتال مستميت يتوقع أن يلحق بالنفوذ الأمريكي ضررا أكبر، يصعب احتواء آثاره إن لم تعد حساباتها وتراجع دعمها غير المشروط للكيان الإسرائيلي المتصدع.
معركة يراقبها العالم وتراقبها القوى المنافسة لأمريكا الصين وروسيا،
فالمعركة البحرية التي أطلقها اليمنيون وأسندها العراقيون لها ما بعدها على النفوذ
الأمريكي وموازين القوى في الممرات البحرية خصوصا العربية، فأمريكا تقاتل في عمقها
الاستراتيجي الذي تحول إلى مورد (جيوسياسي وجيو-اقتصادي) لقوتها ونفوذها؛ إلا أنه
في الآن ذاته اصطدم بواقع (جيو-ثقافي) أكثر رسوخا، لم تستطع تغييره من أجل إدماج الكيان
الإسرائيلي الفاقد للشرعية والأهلية السياسية والأخلاقية والأمنية.
فعملية طوفان الأقصى امتحنت المفاهيم الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية
الخاصة بالاستراتيجية الأمريكية، التي اضطرت لخوض معارك انطلاقا من عمقها
الاستراتيجي الرخو في البحر، بالتوازي مع معركة خاسرة في عالم الدبلوماسية والقيم
الإنسانية والقانونية والمحافل الدولية، ومن ضمنها محكمة العدل التي دفعت وزير
الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للقول؛ إن الدعوى باتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية
لا أساس لها من الصحة، فالرجل تحول إلى قاض ومحام في الآن ذاته ويقاتل في ساحة لم
يستعد لها من قبل.
ختاما.. معركة أمريكا انقلاب
استراتيجي من تفاؤل بإدماج الكيان الإسرائيلي وإعلان النصر بالضربة القاضية قبل
السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، إلى قتال في البر والبحر للدفاع عن النفوذ الأمريكي؛
قتال مستميت يتوقع أن يلحق بالنفوذ الأمريكي ضررا أكبر، يصعب احتواء آثاره إن لم تعد
حساباتها وتراجع دعمها غير المشروط للكيان الإسرائيلي المتصدع.