ما بين الهزيمة والنصر، جاءت مسرحية أغنية على الممر، وتألقت كنقطة ضوء
باهر أشاعها المؤلف الراحل الذكي علي سالم؛ عبر كتابته عن استشهاد أحد أشقائه في حزيران/
يونيو ١٩٦٧، فعندما أدرك أن
المسرح المصري وجمهوره، يتشوق إلى عمل يختلف إن لم
يتناقض مع البكائيات السائدة عقب حرب ١٩٦٧، اختار بفطنته الدرامية تذكير اليائسين بأن
ثمة بطولات منسية، تتمثل في صمود الإنسان المصري وصلابته برغم ما حدث.
اختار علي سالم أحد المواقع العسكرية، يدافع عنه خمسة جنود في قلب سيناء،
لم تصلهم أوامر الانسحاب، فكان عليهم الصمود برغم تناقص الماء والطعام والذخيرة،
وتحت قصف دبابات وطائرات العدو يتمسك الجنود بمكانهم، يواجهون مصيرهم بشجاعة.
لا يحتاج عرض المسرحية لمعدات أو امكانيات، فقط ستارة خلفية سوداء، ولأنها
تخلو من العنصر النسائي الذي لا يتوفر في النجوع والقرى، لذا شقت المسرحية طريقها
إلى عمق البلاد، ليقدمها الهواة في أي ساحة أو فضاء، فوق مناضد أو كنبات، تحت ضوء
الكلوبات.
أحد المواقع العسكرية، يدافع عنه خمسة جنود في قلب سيناء، لم تصلهم أوامر الانسحاب، فكان عليهم الصمود برغم تناقص الماء والطعام والذخيرة، وتحت قصف دبابات وطائرات العدو يتمسك الجنود بمكانهم، يواجهون مصيرهم بشجاعة
أما عن السينما، فلم يكن المخرج السينمائي الكبير علي عبد الخالق، واحدا
ممن استسلموا لتلك الحالة اليائسة، بل عرف منذ اللحظة الأولى وبعد أن استوعب
الصدمة، أن المواجهة بالفن هي السلاح الوحيد، فحمل كاميرته على كتفه، هو وأبناء
جيله من جماعة "السينما الجديدة" الذين صرخوا جميعا "سنواجه ولن
نتوقف".
وأعتقد أن مخرجنا المبدع الكبير صاحب الإنجازات المتنوعة ظل مواجها للحظات
الأخيرة، فجاء فيلمه "أغنية على الممر" الذي أنتج عام ١٩٧٢، مقدما
للحالة الإنسانية والسينمائية الخالصة، والقدرة الباهرة لرواية الحرب والبشر، عبر
هذا الممر الضيق الذي انعزل فيه خمسة جنود مصريين عن باقي الجيش المصري بعد
الانسحاب من سيناء في حرب ١٩٦٧، وكيف عزفوا تلك الأنشودة الحزينة، وكيف كان ذلك
الممر الضيق يشبه خشبة مسرح مليئة بالحركة والصخب والهدوء، وبنفس السلاسة نراه
شريطا سينمائيا شديد الثراء والغنى.
وعندما نقول إن الفيلم "متفرد"، فإن ذلك ليس فقط لتميزه على
المستوى الدرامي والبصري، ولكن أيضا لظروف إنتاجه وتفاصيل عرضه، فنحن أمام نص
مسرحي لعلي سالم من فصل واحد، ملامح أبطاله أقرب إلى أبطال الملاحم، والظروف التي
يجدون أنفسهم فيها هي أجواء ملحمية دون مبالغة.. خمسة جنود من أبطال الجيش المصري:
محمود مرسي، محمود ياسين، أحمد مرعي، صلاح قابيل، وصلاح السعدني، يجدون أنفسهم في
مواجهة العدو بعد أن تقطعت بهم سبل الاتصال، ولم تصلهم أوامر الانسحاب فكان عليهم
الصمود، رغم تناقص الماء والطعام والسلاح، وتحت قصف دبابات وطائرات العدو، يتمسك
الجنود بمكانهم، يواجهون مصيرهم، وكل ما يملكونه في سبيل تلك المواجهة أرواحهم
ودماؤهم يقدمونها طواعية وحبا لأرض الوطن.
تشريح كامل للمجتمع، وتساؤلات حول أسباب الهزيمة، أفكار فلسفية حول: الحياة والموت والتضحية والفداء، دون لحظة ملل واحدة، إيقاع لاهث ولحظات من الصمت تضع أبطال العمل في مواجهة مع أنفسهم وبعضهم البعض، تلك الوجوه الخمسة التي باتت تشبه صخور سيناء المقدسة، وكأنهم تماهوا معها وأصبحوا جزءا منها، ففضلوا أن تروي دماؤهم تلك الصخور
هو تشريح كامل للمجتمع، وتساؤلات حول أسباب الهزيمة، أفكار فلسفية حول: الحياة
والموت والتضحية والفداء، دون لحظة ملل واحدة، إيقاع لاهث ولحظات من الصمت تضع
أبطال العمل في مواجهة مع أنفسهم وبعضهم البعض، تلك الوجوه الخمسة التي باتت تشبه
صخور سيناء المقدسة، وكأنهم تماهوا معها وأصبحوا جزءا منها، ففضلوا أن تروي دماؤهم
تلك الصخور.
سيناريو الفيلم الذي صاغه المخضرم الراحل مصطفى محرم بشكل جديد ومختلف عما
كان يقدم في السينما المصرية والعربية في ذلك الوقت، قام بالربط بين "الفلاش
باك" وما يحدث داخل كهف الممر وخارجه، والتناقض ما بين حياة هؤلاء الأبطال
الذين بدوا وكأن الزمن قد توقف بهم عند تلك اللحظة، والمجتمع الذي يسير بشكل عادي
وطبيعي.. لم يختل إيقاع الفيلم لحظة واحدة، خلال الساعة والنصف من الزمن؛ الأحداث
تسير بالتوازي، كاشفة الكثير عن حاضر هذه الشخصيات وماضيها.. هذا إلى جانب المونتاج
المتقن والتمثيل الباهر، والصورة السينمائية المختلفة والكادرات النابضة بالحركة،
رغم سكون المكان، وزوايا الكاميرا وضيق الكادر في تأكيد معنى حصار أبطاله، سواء
الحصار المكاني أو النفسي، ومعها شريط صوت شديد الغنى والإبداع، قياسا بظروف
السينما المصرية التقنية في ذلك الوقت.
وتعيشي يا بلدي.. يا بلدي تعيشي
وتعيشي يا ضحكة مصر.. تعيشي