وسط ثقل وضجيج كلّ هذا الخراب الذي يحصل، وبالتزامن مع زمن
الكارثة والإبادة
التي تقع في
غزة يصعب التعبير بكلمات عن هول الواقع، فهو يستحيل ليفيض فوق اللغة ويتجاوزها،
لا كلمات قادرة على وصف كلّ هذا الألمّ.
أحاول البحث عن صورة غزة كما أعرفها وأول ما يستحضرني أفلام الأخوين عرب
وطرزان ناصر، الشابين الغزاويين اللذين استطاعا إخراج
يوميات الحصار وسرديات غزة
لمهرجانات السينما العالمية، ناقلين روتين الحياة اليومية، مسلطين الضوء على
حميمية تفاصيل يومية عابرة لأهل غزة سكان الحصار.
قدم الأخوين فيلمهما الطويل الأول "ديجراديه" عام 2015 بعد أن وصل
فيلمهما القصير "كوندوم ليد" عام 2013 للمنافسة على السعفة الذهبية في
مهرجان كان السينمائي.
يختزل ديجراديه غزة بصالون حلاقة شعر نسائي، نرى غزة بعيون وهموم نسائها
التي جسدتها ممثلات فلسطينيات أردنيات منهم منال عوض بدور المدمنة الهاربة من عنف
زوجها والفضولية التي تربط كلّ شيء بالسياسة، وهيام عباس بدور السيدة العزباء ذات
المنظور الطبقي الفوقي والمتسلطة، وميساء عبد الهادي بدور العاشقة وغيرهن.
ضمن صالون ضيق يعج بأحاديث النساء المتقطعة والمتداخلة وضجيج أدوات تصفيف
الشعر ينساب خراب ما يحصل في الخارج لهذه الفسحة تدريجياً.
اظهار أخبار متعلقة
تحتجز النساء الخمس داخل الصالون في منطقة الشجاعية بفعل نشوب شجار مسلح،
على إثر سرقة أسد من حديقة الحيوان وهي حادثة حقيقية حصلت بالفعل في غزة، حادثة
قدّ تكون غير واقعية في عالم آخر ولكنها تقليدية في غزة، تنحصر النساء في فضاء
الصالون المغلق، فضاء لا يقتحمه أحد غيرهن، تتعاملن مع الحجز كحادثة عرضية ستعبر
مثل يومياتهن المتكررة، وتبدأ الحكايا، لتعكس كلّ واحدة منهنّ سرديتها عن غزة.
ضمن هذا الفضاء الضيق والشخصيات المحدودة يعكس المخرجان صور عن مجتمع غزة
بتنوعه وطبقاته المتعددة، بهمومه واشكالياته، لدينا خمسة نساء قادمات لتصفيف الشعر
لكل منهن أسبابها ودوافعها، في صالون تديره سيدة روسية قررت الزواج والعمل في غزة
وفتاة تعمل عندها، يتكثف الزمن في ساعات الحجز في مكان ضيق محاصر أشبه بحصار غزة
الكبير، الزمن هنا هو زمن اللحظة والمكان هو حجرة الصالون الضيقة، أما ما يستعاد
عبر الحوارات فهو طبقات مختلفة من الأماكن والأزمنة البعيدة، أماكن من الصعب
الوصول لها الآن هنا، في ساعات احتجاز النساء في الصالون يقتحم صخب الخارج المكان
بعنف وقسوة ومع مرور الوقت وانقطاع الكهرباء تختنق الشخصيات حتى تخرج كلّ قسوتها
وألمها على الآخر.
تستعيد كل واحدة من النساء غزة عبر سرديتها الخاصة أو قصتها الخاصة فلكل
منهن غزة خاصة بها، بعملية التكثيف هذه استطاعت النساء التحدث عن كلّ شيء تقريباً
عن الأحلام عن الهرب عن الشجاعة والتمرد عن الانتظار، اليأس، الحرب، الحب، العنف،
الفرح.
ديجراديه هو محاكاة مكثفة لحصار طويل الأمد، حصار تم اختزاله بساعات معدودة
في صالون حلاقة أوصل المحتجزات فيه حدّ الانفجار ليخرجن مكنوناتهن بشتى الطرق،
وديجراديه هو يوميات مملة رتيبة بداية من الاسم الذي اختاره المخرجان فالديجراديه
هي من أكثر قصات الشعر ثباتاً وشيوعاً من الممكن تسميتها بقصة الشعر العادية التي
جربتها أغلب سيدات العالم، فهي صلب ما ينبش عنه الأخوين وهو الشيء العادي.
"غزة مونامور"
في عام 2020 قدم عرب وطرزان ناصر فيلمها الطويل الثاني "غزة
مونامور" أو غزة حبيبتي، ويقوما بتجسيد رؤيتهما لغزة ويقدما للمشاهد صورتهما
عنها، الصورة الأشبه بقصيدة شعرية بصريّة مهداة لغزة وأهلها، كان الحصار والموت
خلفيتها الثابتة، ورصد روتين ويوميات غزة واللحظات الحميمية الصغيرة هو ما يريدان
اقتناصه.
عبر شخصية عيسى الصياد الغزاوي الستيني الذي تتاح له مساحة لكسر الرتابة
والثبات، مساحة تتيح له الوقوع في غرام جارته سهام الخياطة الارملة، تاركةً إياه
متخبطاً في التأتأة غير قادر على استخدام اللغة لتحل محلها الابتسامات الخجولة.
اظهار أخبار متعلقة
هل هناك مساحة للحب العادي في غزة؟بين حب المدينة وغرام عيسى لسهام تصبح
الصراعات الأخرى وكل ذاك العنف والقسوة خلفية هشة للفيلم، خلفية تحاول دوماً
اقتحام عالم هذه العلاقة الصغيرة وتخريبه، يسمع صداها على طول مدة الفيلم، يحاول
الأخوين ناصر تكسير السردية النمطية عن غزة بتركيزهما على هذه التفاصيل الصغيرة وبمحاولتهما
كسر الرتابة والروتين عبر حدث طفيف عادي، حدث لا يثير الاهتمام في أي مكان آخر
ولكنه هنا محوري وهو الوقوع في الحب.
إلى جانب هذا الحدث يدخل الأخوين ناصر بنفس الأسلوب الذي اتبعاه في فيلمهما
ديجراديه، حدث خارجي يقوما بتسليط الضوء على الحياة في غزة تحت حصار الاحتلال
ورحمة السلطات، فيجد عيسى أثناء صيده السمك تمثال للإله أبولو، يحاول اخفاءه عن
الجميع، لكن السلطة تضع يدها عليه لتستملكه وتبيعه في السوق العالمية.
يعيش عيسى في كلاسيكيات القرن الماضي، يستيقظ على اسطوانات عبد الوهاب،
يمارس تمرينات رياضية يهتم بمظهره الشخصي كما يهتم برتابة منزله، أعزب ستيني يفرغ
ساعتين من وقته ليطهو السمك مع الموسيقى، مغرم بغزة وبنفس الوقت لا يتدخل بالشأن
العام، تتجسد غزة بالنسبة له في جارته سهام واللحظات القليلة التي يلقاها بها، يقف
بين مشاعره وبينها خجله الشديد خجله الغير مسبوق الذي لا يظهر إلا عند رؤية سهام
فيعود شاب مراهق لا يستطيع الكلام أمامها.
عمل الأخوين ناصر في غزة حبيبتي على تكثيف كل شيء بصرياً لتأتي الصورة ناطقة
بما لا يستطيع عيسى قوله، نرى عيسى صامت أغلب مشاهد الفيلم، تلاحق الكاميرا أدق
تفاصيل يومياته الرتيبة وصولاً لمحاولات لقائه بسهام، نراه وقد اعتقل بعد حيازته
على التمثال غير مكترث بشيء سوى بعودته لرؤيتها، بالإضافة لغرق الصورة بالرمزيات
من تمثال أبولو المنتصب الذي تسيطر عليه السلطة إلى خجل عيسى حتى لحظة الإفراج عنه
وقراره بمصارحة سهام وكأن كل المدنيين يستحيلون في الحصار والقمع مهمشين محرومين
من حق الحياة العادية من حق امتلاك المشاعر والرغبة.
اليوميات وصورة أهل غزة:
يقتطع المخرجان جزء روتيني وعادي من الحياة اليومية لأهل غزة الغير عادية، ويركزان
على تفجير هذا الواقع وتفتيته بحدث غير متوقع، عبر حدث لو وقع في مكان آخر كان غير
عادي.
خيار اللعب بعناصر الشكل الواقعي كان الخيار الأنسب لتقديم صورة غزة، فالذي
يقدمه الأخوان لا يتعلق بالواقعية السحرية كالأفلام الإيطالية، ولكن هو محاولة
قوية تستند على أرضية صلبة وهي الواقع الحقيقي محاول لتفكيك هذا الواقع المفتت
أساساً.
نراهم بين "ديجرادي" و"غزة مونامور" وقد قررا التخفيف
من تعدد عناصر السرد فبينما كانت السرديات في "ديجراديه" متعددة
الأصوات، جاء غزة مونامور ليتعمق أكثر في سردية واحدة وصوت واحد اقتنصه الأخوين
عبر الصورة ليقدما أدق تفاصيله.
اظهار أخبار متعلقة
صورة غزة للعالم هي صورة عن مكان حرب ودمار، هي صورة ساهم الكيان في نشرها
وساهم الوضع العام في تعزيزها، من النادر أن يسأل شخص وسط كل الخراب "ماهي يوميات
أهل غزة؟" هذا ما عمل عليه الأخوين، قاما برمي كل ذلك الدمار ليصبح خلفية
تغطي السرد العام، وجعلا العناصر الغير متوقعة هي أساس الفيلم، فالحب لدى عيسى أهم
من اعتقاله بفعل تهمة تجارة الآثار، سؤال الشخصية الشخصي ودافعها هو رغبتها في
الحب، فالذي كسر روتين حياته ويومياته هو الحب، ونساء ديجراديه بتعدد أصواتهن لكل
منهن دافعها الشخصي، كالهرب في شخصية المدمنة، واستعادة الثقة في شخصية السيدة
الأربعينية، والحب في شخصية مساعدة مصففة الشعر، ليتحول الصالون لعالم صغير وغزة
مصغرة جمعت تفاصيلها اللغة والصورة السينمائية.
هذه التفاصيل الحميمة المشتركة بين البشر هي ما أراد الأخوين نقلها من غزة
للخارج، دون نسيان واقع الحصار والألم المنتشر.