كتب المؤرخ البريطاني اليهودي آفي شليم ورقة بحثية شاملة حول تاريخ قطاع
غزة منذ النكبة في أيار/ مايو 1948 وحتى ما يسميها "حرب نكبة 2023".
وقال شليم إن "طوفان الأقصى" كان أكثر من مجرد فشل استخباراتي إسرائيلي، لقد كان فشلاً في السياسة على أعلى المستويات، كما أنه أثبت خطأ ما كان يقوله
نتنياهو منذ سنين في حديثه إلى الجمهور الإسرائيلي: "إن
الفلسطينيين انتهوا، وإنهم مهزومون، وإن الإسرائيليين بإمكانهم أن يفعلوا ما يحلو لهم في الضفة الغربية، وبإمكانهم أن ينسوا أمر غزة، وأن ينجزوا السلام مع الدول العربية دون تقديم أي تنازلات للفلسطينيين".
وأضاف شليم في دراسته التي نشرت في موقع "
ميدل إيست آي" البريطاني، أن هجوم
حماس أعلن بصوت مرتفع وواضح أن القضية الفلسطينية لم تمت، وأن المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي لم تنته.
وتابع الأستاذ في جامعة أوكسفورد بأن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) سلط الضوء على التناقض بين التبعية الجبانة لإسرائيل والولايات المتحدة من قبل السلطة الفلسطينية من جهة والمقاومة الإسلامية ضد الاحتلال بقيادة حماس من جهة أخرى.
وأضاف شليم أن عملية طوفان الأقصى بالمجمل كانت بمثابة تأكيد قوي على الوكالة والزعامة الفلسطينية (لحماس) في النضال المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي.
"عربي21" ترجمت الدراسة كاملة، وتنشرها على ثلاثة أجزاء، وفيما يلي نص الجزء الثاني:
الحرب على غزة: نتنياهو، حماس، وجذور حرب نكبة 2023
بقلم المؤرخ البريطاني اليهودي آفي شليم
ميدل إيست آي
21 ديسمبر (كانون الأول) 2023
الجزء الثاني
عملية الرصاص المصبوب
شنت إسرائيل أول هجوم عسكري كبير لها على قطاع غزة في السابع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 2008، وأطلقت عليه اسم "عملية الرصاص المصبوب". والسبب الذي بررت به إسرائيل هجومها هو الدفاع عن النفس. حينها زعم الإسرائيليون بأن إسرائيل، مثلها مثل غيرها من البلدان، لديها حق الدفاع عن النفس لحماية مواطنيها.
بمعنى آخر، زعمت إسرائيل أن لديها حق الدفاع عن النفس ضد الناس الذين تحتلهم وتقهرهم. ولكن، لو كان كل ما أرادته إسرائيل بالفعل هو حماية مواطنيها، لما احتاجت إلى اللجوء إلى القوة. كل ما كانت بحاجة لأن تفعله هو التأسي بالنموذج الحسن الذي ضربته حماس من خلال الالتزام بوقف إطلاق النار. تستحضر إسرائيل مراراً وتكراراً حقها في الدفاع عن النفس، ولكن بموجب القانون الدولي، لا ينطبق حق الدفاع عن النفس على من تعتبر قوة عسكرية غير قانونية.
وكانت عملية الرصاص المسكوب كذلك أول هجوم إسرائيلي كبير على أهل غزة، وأنا هنا أستخدم عبارة "أهل غزة" متعمداً. تزعم إسرائيل أن حماس تستخدم المدنيين دروعاً بشرية، وهذا -برأيها- ما يحولهم إلى أهداف عسكرية مشروعة.
ولكن في قطاع شديد الكثافة السكانية، لا مفر من أن تكون بعض مراكز القيادة الحمساوية، وكذلك الأنفاق ومستودعات الأسلحة، موجودة بالقرب من المباني المدنية. لا يعتبر ذلك استخداماً للمدنيين كدروع بشرية، ناهيك عن أن كثيراً من المزاعم الإسرائيلية بأن حماس تستخدم المدارس والمستشفيات والمساجد ومباني الأونروا كغطاء لعملياتها ثبت بطلانه.
في المقابل، يزعم الجيش الإسرائيلي أنه يبذل قصارى جهده لتجنب إيذاء المدنيين الأبرياء، لكن الواقع يتناقض مع ذلك الزعم؛ فقد تسبب هجوم الجيش الإسرائيلي في وقوع الكثير من الإصابات، وفي إلحاق دمار هائل في البنى التحتية المدنية. بل بلغ الأمر بالإسرائيليين أن أسسوا لنمط من الاجتياحات المنتظمة بهدف ضرب حماس، وهي اجتياحات دوماً ما تهطل بالموت والدمار على السكان المدنيين.
عين مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لجنة خاصة للتحقيق في عملية الرصاص المصبوب، وكان يرأسها ريتشارد غولدستون، القاضي الشهير من جنوب أفريقيا. لاحظ فريق غولدستون أن الطرفين مذنبان بارتكاب جرائم حرب، ولكنه خص إسرائيل بأشد انتقاداته؛ بسبب حجم وخطورة جرائم الحرب التي ارتكبتها.
ولإعطاء نموذج واحد، وجد غولدستون ورفاقه سبعة حوادث قتل فيها جنود إسرائيليون مدنيين وهم يغادرون بيوتهم ويرفعون في أياديهم رايات بيضاء.
خلص التقرير إلى أن الهجمات في 2008 و2009 كانت موجهة، جزئياً على الأقل، ضد الناس في غزة بشكل عام. ونص التقرير على أنه كان "هجوماً متعمداً وغير متكافئ، كانت الغاية منه عقاب وإذلال وترهيب السكان المدنيين".
في أثناء الحرب الثانية على لبنان في عام 2006، أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي إيزينكوت عن انتهاج سياسة تتعمد إيذاء المدنيين في جانب العدو، فيما أصبح يطلق عليه فيما بعد "عقيدة الضاحية". اكتسبت العقيدة اسمها من حي الضاحية في بيروت، حيث كانت تقع المقرات الرئيسية لحزب الله في أثناء الحرب.
تضمنت هذه السياسة تدمير البنى التحتية المدنية من أجل حرمان العدو من استخدامها، أقرت استخدام "القوة غير المتكافئة" من أجل تحقيق هذه الغاية. إلا أن العواقب المريعة إنسانياً لهذه العقيدة لم تتضح لكل من لديه عينان تبصران إلا في عام 2023.
"مصممة للعقاب والإذلال"
ما لبثت عملية الرصاص المصبوب أن تبعتها هجمات إسرائيلية أخرى على غزة في 2012 ثم في 2014 ثم في 2021 ثم في 2022 ثم في 2023.
تعدّ عملية السيف الحديدي الهجوم العسكري الإسرائيلي السادس على غزة خلال خمسة عشر عاماً، وما من شك في أنها الأكثر قتلاً وتدميراً على الإطلاق. بعد شهرين من القتال، ارتفع عدد القتلى في صفوف الفلسطينيين إلى ما لا يقل عن 17700، بما في ذلك 7729 طفلاً، وبما في ذلك 5153 امرأة. أما عدد الجرحى، فوصل إلى 48700 – وهو أكثر من المجموع الكلي لعدد من أصيبوا في الهجمات العسكرية السابقة مجتمعة.
كما قتل في الضفة الغربية 265 فلسطينياً على يد الجيش الإسرائيلي وعلى يد مسلحي المستوطنين. ما يقرب من 1.9 مليون شخص، أي ما نسبته تقريباً 85 بالمئة من السكان البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، نزحوا داخلياً. وتحولت أحياء بأكملها إلى ركام تحت وطأة القصف الإسرائيلي الكثيف، الأمر الذي خلف أضراراً كارثية على البنية التحتية وعلى الاقتصاد في غزة.
وكان من ضحايا هذا الهجوم الإسرائيلي الهمجي موظفو الأمم المتحدة الذين تناط بهم مهمة مساعدة الفلسطينيين؛ فقد قتل أكثر من 130 موظفاً تابعين للأونروا ممن يعملون في مجالات التعليم والصحة والإغاثة – وهو أكبر عدد من الضحايا تتكبده الأمم المتحدة في أي صراع طوال تاريخها.
بحسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، دمرت الهجمات الإسرائيلية أكثر من 52 ألف وحدة سكنية، وأصابت بأضرار أكثر من 253 ألفاً أخرى. ما لا يقل عن ستين بالمئة من بيوت غزة إما تضررت أو دمرت بالكامل.
بحلول الثاني عشر من نوفمبر (تشرين الثاني)، ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن 279 مرفقاً تعليمياً تضررت، أكثر من 51 بالمئة من العدد الإجمالي، والآن لم يعد بإمكان 625 ألف طالب في غزة الحصول على التعليم. أكثر من نصف مستشفيات غزة وما يقرب من ثلثي مراكز الرعاية الصحية باتت خارج الخدمة، وأتلفت 53 سيارة إسعاف.
جميع المستشفيات الثلاثة عشر في مدينة غزة وفي شمال القطاع تلقت أوامر بالإخلاء من الجيش الإسرائيلي. انخفض استهلاك المياه بما نسبته 90 بالمئة منذ بداية الحرب. وكان الناس يقفون في طوابير لمدة تتراوح في المتوسط ما بين أربع إلى خمس ساعات من أجل الحصول على نصف الحصة المقررة من الخبز في نظام الترشيد.
تم فقدان ما يقرب من 390 ألف وظيفة منذ بداية الحرب. كان معدل البطالة قبل الحرب يقترب من 46 بالمئة بالمجمل، ويصل إلى ما نسبته 70 بالمئة في صفوف الشباب. لا يمكن وصف الأثر الاجتماعي والاقتصادي للحرب بأقل من كونه كارثياً. ولا يمكن تجنب الاستنتاج أنه كما في عملية الرصاص المصبوب، كانت عملية السيف الحديدي أيضاً "هجوماً متعمداً غير متكافئ، الغاية منه إنزال العقاب والإذلال والترهيب بحق السكان المدنيين".
عادة ما يستخدم الجنرالات الإسرائيليون نفس العبارة لوصف عملياتهم المتكررة في غزة، ألا وهي عبارة "جز العشب". ما تعنيه هذه العبارة هو أنهم لا يملكون حلاً سياسياً للمشكلة في غزة.
ولذلك، تراهم كل بضع سنين يتحركون باتجاه القطاع بالمشاة والدبابات والمدافع وسلاح البحرية والطائرات، يحطمون المكان، ويخفضون من القدرات العسكرية لحماس، ويدمرون البنية التحتية المدنية، ثم يعودون من حيث جاءوا، تاركين المشكلة السياسية كما هي بلا حل على الإطلاق.
"جز العشب" استعارة مرعبة، لأن العبارة تصف عملاً ميكانيكياً يقوم به المرء بشكل دوري كل بضع سنين، ولا تلوح في الأفق له نهاية. وهذا يعني أنه لا توجد نهاية لسفك الدماء، ويعني أن الحرب القادمة وشيكة الوقوع. هذه ليست سياسة للتعامل مع غزة، بل هذه ليست سياسة على الإطلاق. بمعنى آخر، هذا مجرد رد فعل عسكري غير لائق على ما ليس أساساً مشكلة سياسية.
هناك مقولة إسرائيلية رائجة نصها: إذا لم تجد القوة نفعاً استخدم مزيداً من القوة. وهذه فكرة بلهاء – فإذا لم تكن القوة تجدي نفعاً، يعود السبب في ذلك إلى أنها أداة غير مناسبة للتعامل مع المشكلة التي نحن بصددها. بل يمكن أن يكون لذلك الاستخدام نتائج معاكسة لما هو مطلوب تحقيقه.
ولا أدل على ذلك من أن استخدام إسرائيل في الماضي للقوة العسكرية المفرطة وبشكل غير متكافئ هو الذي حفز على صعود حزب الله في لبنان وحماس في قطاع غزة. كما لم تنجح إطلاقاً سياسة إسرائيل اغتيال قادة حماس بهدف قطع رأس المنظمة، إذ سرعان ما يُستبدل بالقادة الأموات زعماء شباب يكونون في العادة أكثر تشدداً.
إن الحكومة التي شكلها بنيامين نتنياهو في أواخر عام 2022 هي الحكومة الأكثر تطرفاً ويمينية وكراهية للأجانب وتوسعية وعنصرية بشكل علني، وهي الأكثر عجزاً في تاريخ إسرائيل. كما أنها الحكومة الأكثر صراحة في دعم الاستيطان والاعتقاد بالتفوق العنصري لليهود.
تؤكد موجهات سياسة هذه الحكومة على أن "الشعب اليهودي لديه حق حصري وثابت في كل أجزاء أرض إسرائيل". بمعنى آخر، فقط اليهود لديهم الحق في كل أرض إسرائيل، التي تتضمن الضفة الغربية. أما الفلسطينيون فليس لديهم حقوق وطنية. هذا الموقف المتطرف والمتعنت يجعل من سفك الدماء أمراً لا مفر منه؛ لأنه يترك الفلسطينيين بلا وسيلة سلمية لإنجاز حقهم في تقرير المصير.
"تمرد العبيد"
خلال الفترة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، أعلنت إسرائيل عن هدف جديد للحرب، ألا وهو القضاء على حماس بشكل تام، كقوة سياسية وعسكرية. بدأ القادة الإسرائيليون يتحدثون عن "تفكيك حماس بشكل نهائي" أو عن "اجتثاث" حماس. كل من لديه معرفة بتاريخ العلاقات بين إسرائيل وغزة، يفاجأ بهذا الهدف. فهو قطعاً يمثل تراجعاً مباغتاً وتاماً في سياسة نتنياهو السابقة.
بينما يفضل بعض الزعماء الإسرائيليين وجود إدارة موحدة لسلطة فلسطينية متعاونة في غزة والضفة الغربية، لم يزل نتنياهو يفضل الوضع القائم حيث تتواجد أنظمة متباينة في غزة والضفة الغربية. إليكم ما كان قد قاله نتنياهو في حديثه مع زملائه في حزب الليكود في مارس (آذار) من عام 2019: "كل من يرغب في إعاقة قيام دولة فلسطينية، فإن عليه أن يدعم تعزيز حماس وتحويل الأموال إلى حماس .... هذا جزء من استراتيجيتنا – أي عزل الفلسطينيين في غزة عن الفلسطينيين في الضفة الغربية".
في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، انهارت بشكل مثير للغاية سياسة نتنياهو المتهكمة، التي كانت تقضي بالحفاظ على الوضع القائم في المناطق المحتلة من باب آلية فرق تسد. كانت سياسته تقضي بإبقاء السلطة الفلسطينية ضعيفة، وتمكين إسرائيل من التحرك بحرية، وفعل ما يحلو لها داخل الضفة الغربية، وفي نفس الوقت إبقاء الفلسطينيين محبوسين داخل سجن غزة المفتوح في الهواء الطلق. إنها سياسة الاحتواء التي فشلت في تحقيق أي احتواء.
ولكن في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، هرب نزلاء السجن من محبسهم. وكما قال نورمان فينكلستين، كان الهرب من المحبس أشبه ما يكون بتمرد العبيد. لقد أطاح مقاتلو حماس والجهاد الإسلامي بالسياج، وانطلقوا في فورة من القتل في جنوب إسرائيل. بادئ ذي بدء، هاجموا قاعدة عسكرية، ثم هاجموا الكيبوتزات والمستوطنات المحاذية لقطاع غزة.
قتلوا ما يقرب من 350 جندياً وأكثر من 800 مدني، وترافق القتل مع ارتكاب فظائع مريعة. كما أخذوا 250 رهينة، من العسكريين والمدنيين على حد سواء. كان ذلك حدثاً مغيراً لقواعد اللعبة، فتلك هي المرة الأولى التي تقوم فيها حماس بهجوم بري واسع النطاق داخل إسرائيل. كان هجوماً مرعباً وغير متوقع، أصيب بسببه المجتمع الإسرائيلي بأسره بالصدمة.
في الجانب الإسرائيلي، كان ذلك أكثر من مجرد فشل استخباراتي، لقد كان فشلاً في السياسة على أعلى المستويات. لم يزل نتنياهو يقول منذ سنين في حديثه إلى الجمهور الإسرائيلي إن الفلسطينيين انتهوا، وإنهم مهزومون، وإن الإسرائيليين بإمكانهم أن يفعلوا ما يحلو لهم في الضفة الغربية، وبإمكانهم أن ينسوا أمر غزة، وأن ينجزوا السلام مع الدول العربية دون تقديم أي تنازلات للفلسطينيين.
وبدا كما لو أن ما يقوله نتنياهو قد ثبت صدقه بفضل اتفاقيات أبراهام التي تم إبرامها بين إسرائيل وكل من البحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب والسودان. فقد قدموا له ما أراد: سلام مقابل السلام، دون أي ثمن يتوجب على إسرائيل دفعه، ودون تقديم أي تنازلات حول القضية الفلسطينية.
كانت الاتفاقيات خيانة للموقف العربي الجامع حول القضية الفلسطينية، وهو الموقف الذي تبنته قمة جامعة الدول العربية في بيروت في شهر مارس (آذار) من عام 2002، فيما أصبح يسمى مبادرة السلام العربية، والتي عرضت على إسرائيل السلام والتطبيع مع جميع أعضاء جامعة الدول العربية الاثنتين والعشرين مقابل الموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة على امتداد خطوط عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
إلا أن إسرائيل تجاهلت العرض. ثم جاءت اتفاقيات أبراهام لتمثل بالنسبة لإسرائيل صفقة من نوع مختلف تماماً، وكانت بمثابة طعنة في ظهر الحركة الوطنية الفلسطينية. أبرمت الاتفاقيات برعاية الولايات المتحدة كجزء من سياسة خاطئة تروج للاستقرار في الشرق الأوسط من خلال التعاون بين الأنظمة العربية السلطوية وإسرائيل، وتجاوز الفلسطينيين.
التبعية الجبانة لإسرائيل من قبل السلطة الفلسطينية
أعلن هجوم حماس بصوت مرتفع وواضح أن القضية الفلسطينية لم تمت، وأن المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي لم تنته. كان أحد أهداف الهجوم درع المملكة العربية السعودية عن إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل. تحت وطأة ضغط شديد من الولايات المتحدة، كادت المملكة العربية السعودية أن توقع على اتفاقية أبراهام مع إسرائيل، وكانت قاب قوسين أو أدنى.
في العالم العربي، كما هو الحال في الغرب، ثمة انقطاع بين الحكومات والشعوب حول قضية إسرائيل وفلسطين. تثمن الحكومات علاقاتها مع أمريكا وإسرائيل، بينما ما يزال الشارع العربي مؤيداً بقوة للفلسطينيين بغض النظر عن تقلبات الجغرافيا السياسية في المنطقة. من خلال إلهاب الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية في كل أنحاء العالمين العربي والإسلامي، أجبر هجوم حماس المملكة العربية السعودية على إعادة النظر.
كما سلط هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الضوء على التناقض بين التبعية الجبانة لإسرائيل والولايات المتحدة من قبل السلطة الفلسطينية من جهة والمقاومة الإسلامية ضد الاحتلال بقيادة حماس من جهة أخرى. فقد أثبتت السلطة الفلسطينية عجزها التام عن حماية الناس في الضفة الغربية مما يتعرضون له من استيلاء على الأراضي، ومن تطهير عرقي، ومن عنف المستوطنين المتصاعد، ومن الاستفزازات التي تتزايد باستمرار داخل وحول المسجد الأقصى في البلدة القديمة في القدس، والذي هو ثالث أقدس موقع في الإسلام إلى جانب مكة والمدينة.
للمسجد الأقصى أهمية قصوى عند المسلمين باعتباره رمزاً دينياً، ومن أجل هذا بالضبط تلتهب المشاعر إزاء الاعتداءات التي تقوم بها حكومة نتنياهو وأتباعها من اليهود المتطرفين. عبر هجومها يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بعثت حماس برسالة إلى إسرائيل مفادها أنه ما عاد بالإمكان التساهل مع هذه الاستفزازات. ولهذا السبب أيضاً أطلق على العملية اسم طوفان الأقصى. كانت العملية بالمجمل بمثابة تأكيد قوي على الوكالة والزعامة الفلسطينية في النضال المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ترك هجوم حماس سياسة نتنياهو بأسرها في حالة يرثى لها، ولربما يدفع ثمناً سياسياً مقابل الفشل الاستخباراتي والأمني. قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، شهدت إسرائيل احتجاجات ضخمة ضد خطته للإصلاح القضائي. لم تتوقف الاحتجاجات تماماً بعد هجوم حماس، ولكن الوضع في غزة أصبح هو القضية المهيمنة. لم يطل المقام بعائلات الرهائن حتى بدأوا بالاعتصام أمام مقر رئيس الوزراء في القدس.
بعد أن يستقر غبار المعركة وتتوقف الحرب، سوف يتوجه السخط ضد نتنياهو، ولذلك تجده يتحدى كل المطالبات الدولية بوقف فوري لإطلاق النار، فهو يعرف أنه بمجرد أن تنتهي الحرب ضد حماس، فإن أيامه في منصبه ستكون معدودة. من الناحية السياسية، يبدو نتنياهو كما لو كان رجلاً ميتاً يمشي على الأرض.
للاطلاع على الجزء الأول من الدراسة:
دراسة مثيرة للمؤرخ اليهودي آفي شليم عن غزة وحماس وجذور نكبة 2023 (ج1)