كتب المؤرخ البريطاني اليهودي آفي شليم ورقة بحثية شاملة حول تاريخ قطاع
غزة منذ النكبة في أيار/ مايو 1948 وحتى ما يسميها "حرب نكبة 2023". واستعرض المؤرخ المرموق والأستاذ في جامعة أوكسفورد جذور "نكبة 2023"، مشيرا إلى أن الاحتلال الإسرائيلي استمر عمليا بعد الانسحاب من غزة عام 2005 وفق المنظمات الدولية، لأنه استمر بالتحكم في الممرات البحرية والجوية والبرية.
وأضاف شليم في الدراسة التي نشرها موقع
"ميدل إيست آي" البريطاني أن "إسرائيل" لديها سجل كبير في خرق اتفاقيات وقف إطلاق النار في غزة، بينما
حماس لديها "سجل ناصع" من الالتزام بها.
"عربي21" ترجمت الدراسة كامة، وتنشرها على ثلاثة أجزاء، وفيما يلي الجزء الأول:
الحرب على غزة:
نتنياهو، حماس، وجذور حرب نكبة 2023
بقلم المؤرخ البريطاني اليهودي آفي شليم
ميدل إيست آي
21 ديسمبر (كانون الأول) 2023
الجزء الأول
عندما انسحبت إسرائيل من غزة في عام 2005، حولت القطاع الصغير إلى سجن مفتوح في الهواء الطلق. ثم جاء رد إسرائيل على هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 – والمتمثل في قصف غزة بلا توقف من الأرض والبحر والجو – ليحول هذا السجن المفتوح في الهواء الطلق إلى مقبرة مفتوحة، وإلى أكوام من الركام، وإلى أرض خربة مهجورة.
في خطابه أمام مجلس الأمن الدولي، قال أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش إن هجوم حماس، الذي قتل فيه 1200 شخص معظمهم من الإسرائيليين وأخذت فيه 250 رهينة، لم يحدث في فراغ. ولاحظ أن "الشعب الفلسطيني يتعرض منذ ستة وخمسين عاماً لاحتلال خانق". ثم أضاف مباشرة بعد ذلك: "إن تظلمات الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تبرر الهجمات المروعة التي قامت بها حماس، كما أن هذه الهجمات المروعة لا تبرر العقاب الجماعي الذي يمارس ضد الشعب الفلسطيني".
رد السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة جلعاد إردان بشن هجوم شخصي شرس على الأمين العام زاعماً، زوراً وبهتاناً، أنه اتهم إسرائيل بفرية الدم (ذبح أطفال الآخرين لاستخدام دمهم في صناعة الفطير اليهودي)، وطالب باستقالته، ثم توج ذلك بمطالبة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالتوقف عن تمويل المنظمة.
ليس جديداً على إسرائيل مناهضة الأمم المتحدة والعمل على إعاقة عملها، إلا أن ما كان مذهلاً حقاً في هذه المناسبة هو ذلك التناقض البين ما بين نزاهة وإنسانية الأمين العام من جهة ووقاحة وفظاظة المندوب الإسرائيلي من جهة أخرى.
أقترح تقفي خطوات الأمين العام من خلال التأكيد على حقيقة لا لبس فيها، ألا وهي أن الصراع بين إسرائيل وحماس لم يبدأ في يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ولذلك لا بد من وضع ذلك الحدث ضمن سياقه التاريخي المناسب.
قطاع غزة هو الاسم الذي يطلق على الجزء الجنوبي من السهل الساحلي لفلسطين، والمحاذي لمصر. كان القطاع جزءاً من فلسطين أثناء الانتداب البريطاني، والذي انتهى في شهر مايو (أيار) من عام 1948.
كان من المقرر بموجب خطة التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة في عام 1947 أن يشكل القطاع جزءاً من دولة فلسطين العربية، إلا أن هذه الدولة لم تكتب لها الولادة. أثناء حرب عام 1948 على فلسطين، استولى الجيش المصري على هذا القطاع شبه الصحراوي. ثم جاءت اتفاقية الهدنة بين إسرائيل ومصر عام 1949 لتترك هذه المساحة من الأرض في الجانب المصري من الحدود الدولية الجديدة. لم تضم مصر المنطقة، ولكنها أبقتها تحت الحكم العسكري بانتظار التوصل إلى حل للصراع العربي الإسرائيلي.
يبلغ طول القطاع 25 ميلاً ويتراوح عرضه ما بين أربعة إلى تسعة أميال، بمساحة إجمالية قدرها 141 ميلاً مربعاً. خلال حرب عام 1948، أضيف إلى سكان القطاع البالغ عددهم 70 ألف نسمة ما يقرب من 200 ألف لاجئ، مما نجم عنه مشكلة إنسانية ضخمة. تم تشكيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من أجل توفير الغذاء والتعليم والخدمات الصحية للاجئين.
ثم احتلت إسرائيل قطاع غزة أثناء حرب السويس التي دارت رحاها في أكتوبر ونوفمبر (تشرين أول وتشرين ثاني) من عام 1956، ولكنها أجبرت تحت وطأة الضغوط الدولية على الانسحاب من القطاع في شهر مارس (آذار) من عام 1957. قتل عدد ضخم من المدنيين، وارتكبت فظائع على أيدي الجيش الإسرائيلي خلال فترة احتلال المنطقة، وهي فترة لم تدم طويلاً، ولكنها كانت ذات دلالة على ما هو قادم في قابل الأيام.
في عام 1967 احتلت إسرائيل قطاع غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، بالإضافة إلى مرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء. ثم انسحبت من سيناء في عام 1981 كجزء من صفقة السلام التي أبرمتها مع مصر.
في شهر أغسطس (آب) من عام 2005، سحبت إسرائيل جنودها ومستوطنيها من قطاع غزة. زعم المتحدثون باسم إسرائيل أنهم من خلال الانسحاب يمنحون الفلسطينيين في غزة الفرصة لكي يحولوا القطاع إلى ما يشبه سنغافورة الشرق الأوسط.
وهو ادعاء غير معقول إذا ما أخذنا بالاعتبار الواقع المروع، ولكن ذلك ما هو معهود من الدعاية الإسرائيلية.
والواقع هو أنه ما بين عام 1967 وعام 2005، سادت حالة استعمارية كلاسيكية في قطاع غزة، حيث كان بضعة آلاف من المستوطنين الإسرائيليين يتحكمون بخمسة وعشرين بالمائة من المنطقة، وأربعين بالمائة من الأراضي الصالحة للزراعة، ويحظون بأكبر حصة من مصادر المياه التي هي أصلاً شحيحة للغاية.
لا يعاني قطاع غزة من التخلف أو الفقر لأن سكانه كسالى وإنما لأن النظام الاستعماري الإسرائيلي الجشع لم يترك لهم مجالاً للازدهار. فقد أعيق التقدم الاقتصادي بفعل استراتيجية إسرائيل التي كانت تتعمد الإفقار التنموي.
ساره روي، أستاذة يهودية في جامعة هارفارد، وهي ابنة لناجين من المحرقة، وخبيرة رائدة في أحوال قطاع غزة. فقد ألفت أربعة كتب حول غزة، كان أولها كتاب رائد في هذا المجال بعنوان "قطاع غزة، الاقتصاد السياسي للإفقار التنموي". فهي التي ابتدعت في هذا الكتاب وصاغت رسمياً مصطلح الإفقار التنموي، الذي غدا مصطلحاً محورياً.
والفكرة القوية التي عرضتها تتلخص في أن الوضع البائس في غزة لم يكن ناجماً عن أسباب موضوعية وإنما عن سياسة إسرائيلية متعمدة تستهدف إبقاء القطاع محروماً من التنمية وعالة على الاحتلال. على الرغم مما ووجهت به من معارضة شديدة من قبل الدوائر الأكاديمية حينما اقترحت للمرة الأولى استخدام المصطلح، إلا أنه ما لبث أن غدا مستخدماً على نطاق واسع وجزءاً من قاموس العلوم السياسية وغير ذلك من التخصصات العلمية. يستعرض الكتاب بالتفصيل الإجراءات المختلفة التي من خلالها تقوض إسرائيل التنمية الصناعية في قطاع غزة وتستغل القطاع كمصدر للعمالة الرخيصة، وكذلك كسوق لما تنتجه هي من سلع.
القنبلة السكانية الموقوتة
كانت هناك ثلاثة أسباب رئيسية من وراء اتخاذ حكومة الليكود اليمينية بقيادة آرييل شارون قرار الانسحاب من غزة في عام 2005. أما الأول فهو أن حماس، حركة المقاومة الإسلامية، شنت هجمات على الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، ونتيجة لذلك، تجاوزت تكاليف احتلال غزة المنافع التي كانت ترجى منه.
لم تعد اللعبة تستحق أن تضاء في سبيلها شمعة.
وأما الهدف الثاني من الإجراء فكان تخريب عملية أوسلو للسلام، وذلك بحسب ما شرحه مدير مكتب شارون دوف ويزغلاس في مقابلة مع صحيفة هآريتز في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2004، حيث قال:
"إن المغزى من ذلك هو تجميد العملية السياسية. وعندما تقوم بتجميد تلك العملية فإنك تحول دون قيام دولة فلسطينية، كما تحول دون إجراء أي نقاش حول اللاجئين والحدود والقدس. فعلياً، كل هذه الحزمة التي تسمى الدولة الفلسطينية، بكل ما تتضمنه أو تعنيه، تم استبعادها تماماً من أجندتنا وإلى غير رجعة. فك الارتباط كان بمثابة فورمالدهايد. فهو يزود من الفورمالدهايد الكمية الضرورية لضمان ألا تكون هناك عملية سياسية مع الفلسطينيين".
وأما السبب الثالث من وراء فك الارتباط فكان له علاقة بالتركيبة السكانية، إذ أن الفلسطينيين لديهم معدلات إنجاب أعلى من تلك التي لدى الإسرائيليين، وهذا بحد ذاته يعتبر تهديداً، وهو ما يطلق عليه بعض الإسرائيليين "القنبلة السكانية الموقوتة".
من أجل الحفاظ على الأغلبية اليهودية الضئيلة في المناطق التي تدعي إسرائيل أنها لها، قرر حزب الليكود الانسحاب أحادياً من غزة. من خلال انسحابها من غزة، أزالت إسرائيل، أو ظنت أنها أزالت، بضربة واحدة، 1.4 مليون فلسطيني من المعادلة السكانية الكلية.
زعم شارون أنه من خلال الانسحاب من غزة، فإن حكومته كانت تساهم في خدمة عملية السلام مع الفلسطينيين. ولكن كانت تلك في حقيقة الأمر خطوة إسرائيلية أحادية، تم اتخاذها فقط ضمن ما كان يعتبر مصلحة قومية إسرائيلية.
كشف عن طبيعة هذا الإجراء نفس الاسم الذي أطلق عليه، ألا وهو "فك الارتباط الأحادي مع غزة." لم يكن فك الارتباط مع غزة مقدمة لانسحابات أخرى من الضفة الغربية، ولا ريب على الإطلاق في أنه لم يكن مساهمة في صنع السلام.
لم تلبث البيوت التي تم التخلي عنها في غزة أن دمرت بالجرافات تدميراً تاماً ضمن ما اعتبر سياسة الأرض المحروقة. كان الاعتبار المهيمن من وراء الإجراء هو تحويل الموارد بعيداً عن غزة من أجل حماية وتعزيز المستوطنات الإسرائيلية الأهم في الضفة الغربية.
خلال العام الذي تلا سحب ثمانية آلاف مستوطن من غزة، أحضر حزب الليكود اثني عشر ألف مستوطن جديد إلى الضفة الغربية. يبلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية اليوم سبعمائة ألف، بما في ذلك أولئك الذين يستوطنون داخل القدس الشرقية. من الجدير بالانتباه أن الإجراء الذي اتخذ في عام 2005 لم يتم تنسيقه مع السلطة الفلسطينية.
كان هدف حكومة شارون بعيد المدى هو إعادة رسم حدود إسرائيل العظمى بشكل أحادي. وكان فك الارتباط مع غزة خطوة من الخطوات التي اتخذت من أجل تنفيذ هذه الاستراتيجية الكلية. وكانت الخطوة الأخرى هي بناء ما يسمى بالحاجز الأمني حول الضفة الغربية، والذي كان يتعلق، في حقيقة الأمر، بالاستيلاء على المزيد من الأرض بقدر ما كان يتعلق بالاحتياجات الأمنية. قيل حينها إنه إجراء أمني مؤقت، ولكن كان المقصود منه رسم الحدود النهائية لإسرائيل الكبرى.
ينبثق الإجراءان كلاهما من رفض مبدئي للحقوق الوطنية الفلسطينية. ولقد عكس كلاهما عزم إسرائيل على منع الفلسطينيين منعاً باتاً من تحقيق الاستقلال على أرضهم. وكانت الغاية من قطع الصلة تماماً بين قطاع غزة والضفة الغربية هو إعاقة النضال الفلسطيني الموحد من أجل الاستقلال. وعلى المستوى التكتيكي، مكن الانسحاب من غزة سلاح الجو الإسرائيلي من قصف القطاع كما يشاء وحينما يشاء، وهو الأمر الذي كان متعذراً طالما تواجد المستوطنون الإسرائيليون هناك.
نصر حماس الانتخابي
بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة، خففت حماس من برنامجها وتوجهت نحو صناديق الاقتراع كسبيل للوصول إلى السلطة. كان ميثاقها الذي صدر في عام 1988 يعتبر وثيقة معادية للسامية. ولكن من على منصتها الانتخابية في يناير 2006، عبرت ضمنياً عن قبولها بوجود إسرائيل وخفضت سقفها للقبول بدولة فلسطينية مستقلة على امتداد حدود عام 1967.
إلا أن حماس رفضت التوقيع على اتفاقية سلام رسمية مع إسرائيل، وأصرت على حق العودة للاجئي 1948، فيما اعتبر على نطاق واسع تعبيراً عن الرغبة في تفكيك إسرائيل كدولة يهودية.
حققت حماس فوزاً قاطعاً في الانتخابات الحرة والنزيهة، ليس فقط في غزة، بل وفي داخل الضفة الغربية كذلك. ونظراً لأنها فازت بمقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني بأغلبية مطلقة، مضت حماس لتشكل الحكومة طبقاً لما هو متعارف عليه في الإجراءات الديمقراطية.
كان انتصار حماس بمثابة مفاجأة غير سارة لإسرائيل وداعميها الغربيين. رفضت إسرائيل الاعتراف بالحكومة الجديدة ولجأت إلى شن حرب اقتصادية عليها من أجل تقويضها. قررت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في تصرف جللهما بالعار الأبدي، الاقتداء بالنموذج الإسرائيلي، فرفضا الاعتراف بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً، وانضما إلى إسرائيل في خوض حرب اقتصادية ضدها لتقويضها.
هذا فقط نموذج واحد، من بين كثير من النماذج، على النفاق الغربي في التعامل مع إسرائيل وفلسطين. يدعي الزعماء الغربيون أنهم يؤمنون بالديمقراطية، وأن هدفهم حول العالم هو الترويج للديمقراطية، فلقد غزوا العراق في عام 2003 باسم الديمقراطية، ولكن انتهى بهم المطاف إلى تدمير البلد والتسبب في مقتل مئات الآلاف من سكانه.
وكذلك استخدمت التدخلات العسكرية الغربية في أفغانستان وسوريا وليبيا أيضاً الديمقراطية قناعاً تخفي من ورائه الأطماع الإمبريالية. انتهت كل هذه التدخلات إلى فشل ذريع. تحتاج الديمقراطية لأن تبنى من قبل الناس من أسفل إلى أعلى، ولا يمكن أن تفرض عليهم من قبل جيش أجنبي يصوب نحوهم بنادقه أو مدافع دباباته.
كانت فلسطين نموذجاً مضيئاً للديمقراطية الفعلية، إذ كانت، ربما باستثناء لبنان، الديمقراطية الأصيلة الوحيدة في العالم العربي، مقارنة بما يمارس فيه من ديمقراطية زائفة. فرغم ظروف بالغة الصعوبة في ظل احتلال عسكري قاهر، نجح الفلسطينيون في بناء نظام سياسي ديمقراطي. نطق الشعب الفلسطيني وقال كلمته، ولكن إسرائيل وحلفاءها الغربيين رفضوا الاعتراف بنتيجة الانتخابات لأن الشعب صوت للحزب الخطأ الذي لا يروق لهم.
في شهر مارس (آذار) من عام 2007، شكلت حماس حكومة وحدة وطنية بالاشتراك مع فتح، حزب التيار الرئيسي الذي جاء في المرتبة الثانية في صناديق الاقتراع. كانت حكومة معتدلة، تكونت بشكل أساسي من تكنوقراط بدلاً من سياسيين. ودعت حماس شريكها في الائتلاف إلى التفاوض مع إسرائيل على إبرام اتفاق هدنة طويلة المدى.
وما كان أكثر أهمية من عرض الهدنة طويلة المدى هو قبول حماس بتسوية على أساس حل الدولتين (بما في ذلك الاعتراف الضمني بوجود إسرائيل كأمر واقع). تمت الإشارة إلى ذلك القبول في إعلان القاهرة الذي صدر في عام 2005، ثم في وثيقة الأسرى التي نشرت في عام 2006، وأخيراً في اتفاق مكة بين حماس وفتح في عام 2007.
تكاد تكون حماس قد وافقت صراحة على تسوية حل الدولتين، وكما لاحظ مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط ألفارو دي سوتو، كان يمكن لهذا الموقف أن يتطور أكثر – لولا أن إسرائيل وحلفاءها قابلوا كل الاستهلالات بالرفض القاطع. ومع ذلك، استمر زعماء حماس في التوضيح، في تصريحات لاحقة أكثر من أن تحصى، أن لديهم الاستعداد للقبول بدولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967.
حصار جائر
لم تكتف إسرائيل برفض دعوة حماس إلى إبرام هدنة ورفض عرضها التفاوض على تسوية تقوم على حل الدولتين، بل شاركت في مؤامرة للانقلاب على حكومة الوحدة الوطنية وإخراج حماس من السلطة.
في عام 2008، كشف تسريب لوثائق تشتمل على محاضر اجتماعات المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية عن أن إسرائيل والولايات المتحدة سلحتا ودربتا القوات الأمنية التابعة للرئيس محمود عباس من أجل الإطاحة بحكومة حماس.
فيما بعد، تم الكشف عن مزيد من التفاصيل عبر "الأوراق الفلسطينية"، والتي هي عبارة عن خبيئة تتكون من 1600 وثيقة دبلوماسية سُربت إلى قناة الجزيرة، وكشفت عن تشكيل لجنة سرية أطلق عليها اسم لجنة غزة، وتتكون من أربعة أعضاء هم: إسرائيل والولايات المتحدة وحركة فتح والمخابرات المصرية. وكانت الغاية من تلك اللجنة هي عزل وإضعاف حماس ومساعدة فتح على القيام بانقلاب من أجل إعادة الاستيلاء على السلطة.
قررت حماس استباق الانقلاب الفتحاوي، فاستولت على السلطة في غزة بالقوة في شهر يونيو (حزيران) 2007. منذ ذلك الحين وفرعا الحركة الوطنية الفلسطينية في حالة من الانقسام، حيث تحكم حماس قطاع غزة انطلاقاً من مدينة غزة بينما تحكم السلطة الفلسطينية، التي تهيمن عليها حركة فتح، الضفة الغربية انطلاقاً من رام الله.
من الجدير بالذكر أن السلطة الفلسطينية، التي تمول بشكل أساسي من قبل الاتحاد الأوروبي، وبدرجة أقل من قبل الولايات المتحدة، تعمل جوهرياً كما لو كانت مقاولاً بالباطن مستأجراً لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية. وهي سلطة فاسدة، منعدمة الكفاءة، وعاجزة.
ونتيجة لذلك فهي لا تحظى إلا بنزر يسير من الشرعية داخل الضفة الغربية، وبقدر أقل من ذلك داخل قطاع غزة.
كان رد فعل إسرائيل على استيلاء حماس على السلطة هو تكثيف الحصار المفروض على غزة. ولم تزل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الحلفاء الأوروبيين يساهمون في هذا الحصار الجائر المستمر منذ سبعة عشر عاماً، والذي يسبب المشقة والمعاناة لسكان القطاع، ويتضمن تحكم إسرائيل الكامل ليس فقط بما يستورد إلى داخل القطاع، بل وأيضاً ما يسمح بتصديره إلى خارجه، بما في ذلك السلع الزراعية.
وهذا الحصار المفروض على غزة ليس فقط جائراً وغير إنساني، بل هو بكل بساطة غير قانوني. فالحصار نوع من أنواع العقاب الجماعي، وهو محرم صراحة في القانون الدولي. ومع ذلك أخفق المجتمع الدولي بشكل ذريع في مساءلة إسرائيل ومحاسبتها على هذا الفعل وعلى بقية أفعالها غير القانونية. في هذه الأثناء تنفي إسرائيل أنها القوة المحتلة لقطاع غزة.
إلا أن الأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش، كلها خلصت إلى أن إسرائيل تبقى في حالة من ممارسة "الاحتلال الفعلي" على الرغم من الانسحاب المادي، وذلك لأنها تستمر في التحكم بالعبور من وإلى القطاع براً وبحراً وجواً.
بعد حرمانها من ثمار انتصارها الانتخابي، لجأت حماس إلى سلاح الضعيف، إلى ما تطلق عليه إسرائيل "الإرهاب"، وهذا اتخذ شكل الهجمات الصاروخية التي تنطلق من غزة باتجاه جنوب إسرائيل، فيرد الجيش الإسرائيلي على ذلك بقصف غزة، وهكذا استمرت دائرة العنف المتبادل والتصعيد، إلى أن نجحت مصر في شهر يونيو (حزيران) من عام 2008، في التوسط لإبرام اتفاق وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس.
نجح وقف إطلاق النار نجاحاً باهراً، فخلال الشهور الستة التي سبقت شهر يونيو (حزيران) كان معدل الصواريخ التي تطلق من غزة باتجاه إسرائيل 179 في الشهر، وخلال الشهور التي تلت الاتفاق أصبح معدل الصواريخ ثلاثة في الشهر. إلا أن الجيش الإسرائيلي قام في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 بشن غارة داخل غزة، مما أدى إلى مقتل ستة مقاتلين من حماس، كما أدى إلى قتل الهدنة، وبالتالي إلى استئناف فوري للقتال بين الطرفين.
عرضت حماس تجديد وقف إطلاق النار بناء على الشروط الأصلية، والتي تضمنت إنهاء الحصار، إلا أن إسرائيل رفضت العرض وراحت تستعد لتجديد القتال. لدى حماس سجل ناصع البياض فيما يتعلق بالالتزام بوقف إطلاق النار، أما إسرائيل فلا. كل اتفاقات وقف إطلاق النار التي توسطت مصر لإبرامها تم خرقها من قبل إسرائيل بعد أن قضت غايتها منها.