إن جوهر المشروع الصهيوني استيطاني ـ اجتثاثي ـ إحلالي، فالصهيونية لم تكن تتوخى، بخلاف الكولونيالية الكلاسيكية، الاستيلاء على وطن، ونهب موارده، والسيطرة على سكانه، باستغلالهم كأيد عاملة بسعر رخيص، بل كانت تتوخى بالأحرى خلق مجتمع جديد في مكان مجتمع أصلاني قديم.
يناقش د. بلال عوض سلامة، أحد سمات المشروع الصهيوني وأهمها في كونه
استعمارا إحلاليّا، في
كتابه "في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة
المقدسية"، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2023).
يعالج هذا الكتاب الاستعمار الصهيوني بوصفه استعمارا إحلاليّا يهدف
إلى المزيد من السيطرة على الأمكنة
الفلسطينية حيث أمكن، وخصوصا سياساته الإحلالية في القدس المستعمرة، المتركزة في ثلاثة أمكن، وهي باب العامود عبر إحلال
واستعمار الإدراك الحسي والعقلي للمشهد البصري للفلسطيني في سبيل تهويده
و"أسرلته". وحي الشيخ جراح عبر اجتثاث سكانه وجعل البيت فيه بيئة غير
آمنة، ومزاحمة الفلسطيني للاستحواذ عليه بالقوة المفرطة. ومحيط المسجد الأقصى
وساحاته والإحلال المقدس فيه، عبر إحلال المقدس اليهودي مكان المقدس الإسلامي
والعربي.
عالج في الفصل الأول "في معنى المكان: القدس كبلدة ــ الله
والفلسطيني ـ العتيقة"، تكوين القدس، والبلدة العتيقة بمعالمها وقيمها، كمكان
فلسطيني يعد أحد الرهانات للوجود الفلسطيني تاريخيّا. كان ذلك على المستوى الفردي
أو الجمعي، الديني والوطني والاجتماعي، أو الاقتصادي والسياسي، وحتى على
المستوى اللغوي "اللهجة
العامية" أو الصوري، هم من جعلوا القدس مكانا مشركا ومقدسا للفلسطينيين
المقدسيين، في عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقياتهم، فكلمة "ابن بلد" و"خال"
إشارة إلى هذه العلاقة اليومية والحميمية في الواقع اليومي المعاش، في الدفاع عن
حدودهم وجغرافيتهم للمكان الذي كونوه لحمايته، فهذا المكان مقدس، وهذا الفلسطيني
يستل قدستيه منه، والعكس صحيح. (ص 37).
إن الحاجة الملحة إلى استملاك المكان، باب العامود نموذجا؛ هي مسألة
جمعية، واستعادة المكان هو ضرورة فلسطينية، لهذا لا بد للكل الفلسطيني من أن
يستوعب أن ما جرى من احتفالات وممارسات ومسلكيات قد تتناقض مع معتقداته الدينية
والاجتماعية والثقافية؛ لأن المساحة التي يتيحها باب العامود تتسع: للصلاة،
والرقص، والدبكة، والشراء والبيع، وعزف العود والموسيقي، ورياضة الباركور، وإحياء
الليالي الرمضانية. فقدسية المكان من قدسية الفلسطيني، فدعوا الفلسطينيين يستعيدون
باب العامود بطقوس وشعائر تعزز التنوع والاختلاف والفرح، ونحمد الله على فطرة
القدس. (ص 48)
الاستعمار "الإسرائيلي" يتعامل مع العنصر الاقتصادي في علاقته مع الفلسطيني من ناحيتين؛ "الأولى، تعميق حالة التبعية واستلاب السوق الفلسطينية وربطها بـ(الاقتصاد الإسرائيلي). وثانيا، تقيد الفلسطيني بـ(إنجازات ومزايا) وهمية، بربطه بالمؤسسة الاقتصادية (الإسرائيلية)".
فالبيت كـ"مكان" يعني كل شيء للفلسطيني، ترتبط به الذكريات
التي تقيم دائما ارتباطها ببقعة جغرافية، "ما يحدث في حي الشيخ جراح أو في
بلده سلوان أو في أي منطقة أخرى، ليس
منفصلا عما يختبره الفلسطيني عن التطهير العرقي المستمر له منذ بداية الصراع، وهو
انتزاع الفلسطيني من مكانه، من وجوده، من بيته، من المكان الذي يألفه، فإذا كان
الاستلاب بصورة عنيفة في النكبة، فالآن يختبرها بصورة وقحة وصلفة" (ص 51).
"إن سياسة هدم البيوت أو الأبراج هي رديف لسياسات عقيدة الصدمة، التي تهدف إلى
سلب السكان الأصليين لمفهومهم بذاتهم وبتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم حتى
وجودهم" (ص 61).
يرصد سلامة في الفصل الثاني: "المشهد المكاني وسياقات الفعل في
القدس"، الفعل الثوري المقدسي في مواجهة العدو الصهيوني، "فالأحداث، من
العمليات الفردية إلى معركة البوابات الإلكترونية إلى واقعة باب العامود وحالة
الاحتجاجات في حي الشيخ جرَّاح، لا يمكن أن تكون فردية بصورة مفرطة؛ لأن السلوك
والوعي متمحوران حول استعادة المكان للجماعة، الذي ينتمي إليه الأفراد" (ص
71).
فـ "الحضور في المكان والتعبير عن الاحتجاج أو المقاومة ليسا
أمرا عفويا كما يعتقد البعض؛ لأنهما ينزعان الوعي والإدراك عن الأفراد سعيا
لتحويلهم إلى حشود ودهماء، في حين أنهم جموع بشرية مدركة، ولديها وعي وحضور ومطلب
ورسالة، فإن كانت أفعالهم وسلوكهم وشعارهم وقضاياهم المطلبية لا تخطط للحدث الكلي
الذي يساهمون في صنعه، فهي تقود إليه لاحقا. فالحضور بداية يكون غير منتظم، وبعد
ذلك يتم التنظيم والتأطير المجتمعي والتخطيط حتى بالأدوات التي يتم اختيارها في
المواجهة مع الأجهزة العسكرية الاستعمارية، وهذا ما تجلّى في معركة البوابات
الإلكترونية في البلدة القديمة عام 2017" (ص 72).
ليس خفيا على أحد أن إحدى أهم أولويات الاستعمار الإحلالي، هي
"السيطرة على المكان وإعادة هندسته وصوغه وفق المخططات والفضاءات والتمثيلات
التي تخدم توسعه، وإحكام السيطرة والهيمنة على الحيز بوصفه مكانا خاويا من
السكان" (ص 73). فقد "مارس الاستعمار الإحلالي الصهيوني سياسة السيطرة
والهيمنة على المكان والمقدسي، من أجل اصطناع بيئة ذات معنى جديد للمكان الفلسطيني
ليحتل الذاكرة الجمعية والتواصلية للمكان، بما تعنيه من معان ورموز وقيم عبر
السياسات العمرانية، وتغير المشهد المكاني/ الزماني للفلسطينيين" (ص 81).
لقد "شملت الهندسة الزمان الفلسطيني في حركته وتنقله في البلدة
القديمة منها وفيها وإلى خارجها، عبر سلسلة من نقاط الرقابة والضبط العسكري
والحواجز وأنظمة الرقابة المعلوماتية وانتشار الكاميرات، والتحكم في الزمان/
اللازمان الفلسطيني. تتجسد هذه السياسة بصورة واضحة وصارخة، من خلال خططهم
الهادفة إلى التقسيم الزمكاني لساحات المسجد الأقصى، حتى يعدّ المشهد وكأنه جزء من
(اللامكان) الفلسطيني، بمعنى حضور المستوطنين والجنود فيه، في استعمار للذاكرة
الفلسطينية ولمقدساتهم وزمانهم" (ص 83).
يري المؤلف أن الاستعمار "الإسرائيلي" يتعامل مع العنصر
الاقتصادي في علاقته مع الفلسطيني من ناحيتين "الأولى؛ تعميق حالة التبعية
واستلاب السوق الفلسطينية وربطها بـ(الاقتصاد الإسرائيلي). وثانيا، تقيد
الفلسطيني بـ(إنجازات ومزايا) وهمية، بربطه بالمؤسسة الاقتصادية
(الإسرائيلية)" (ص 83).
ويؤكد أن ما يحدث في القدس، هو "استعمار (الإدراك الحسي
والعقلي) للمقدسي، والعمل على تشوية الذاكرة الجمعية والمحلية، واستعمار الجسد
الفلسطيني؛ من أجل خلق اللامكان واللامعنى للفلسطيني" (ص 87).
لقد "شكل الحضور وهويته في باب العامود كـ(نموذج مثالي)"،
في بلورة "هوية وخطاب وثقافة وشعارات المحتجين في حضورهم اليومي المقاوم،
ليكون مرابطا في لحظة، ومقاوما في لحظة ثانية، وجدعا في ثالثة، وفلسطينيّا في
رابعة، و(جكارة) كحضور يومي للمقدسي في مواجهة الاستعمار في لخظة خامسة" (ص
95). فـ"الانخراط بالنضال والاشتباك مع الاستعمار الصهيوني الإحلالي ليس
حدثا جزئيّا، وإنما يندرج في بنية مواجهة الاستعمار الإحلالي، كون هذا الاشتباك
ليس مجرد رد فعل عفوي أو حتى فورة، وإنما هو دينامية متفاعلة متواصلة من خلال
الحضور في المكان لأسباب سياسية أو أيدلوجية أو ثقافية أو اجتماعية، وسرعان ما
ينتظم الحضور حول خطاب سياسي من نوع ما أو مطلبي، ويكون السبب في بداية النضال
(بوابات إلكترونية، أو منع الحضور والوجود على درجات باب العامود، أو إخلاء
السكان من حي الشيخ جراح، وبلدة سلوان". (ص 104).
إن ما يحدث في القدس، هو "استعمار (الإدراك الحسي والعقلي) للمقدسي، والعمل على تشوية الذاكرة الجمعية والمحلية، واستعمار الجسد الفلسطيني؛ من أجل خلق اللامكان واللامعنى للفلسطيني".
هذا الحضور الفلسطيني تمثل في "خيار التدفق إلى الشوارع"
(ص 108- 113)، و"استعادة الأمكنة الفلسطينية فعليًا أوثقافيًا ورمزيًا"
(ص 189). و"تنوع الأدوات والوسائل الاحتجاجية في حرب الأمكنة" (ص 125 ـ
139)
.
يتناول سلامة في الفصل الثالث "الطبقة الوسيطة وثرثرة نوستالجيا
الانتفاضة الشعبية"، مفهوم النوستالجيا الذي يعني "الإفراط في المعنى
والمتخيَّل، من حيث الحنين إلى الماضي، وفي حالتنا في الانتفاضة الشعبية
الفلسطينية، تكون النوستالجيا في العادة مشاعر إيجابية وتوجهات أيديولوجية
انتقائية للتجربة والحدث، والمنظومة القيمية التي تبنتها، ولكنها تُعَدُّ حنينا
إلى أماكن خالية لم تعد موجودة بالمعنى
والدلالة التي كانت فيه، ولا بالإمكان العودة إليها، إلا بإعادة الشرط التاريخي
وفواعله فيها، أو بالعودة إليه بالمعيارية نفسها، فحين نتحدث عن الانتفاضة الشعبية، نتحدث بقوة عن علاقاتها الاجتماعية وبساطة الحياة وثقافتها وقيمها من الناحية
الإيجابية" (ص 152).
ينتقد المؤلف ما يسمى بـ"تقديس الطبقة الوسيطة؛ من سياسيين،
ورجال أمن، وأحزاب، وموظفي المنظمات الحكومية وغير الحكومية، وليبراليين... إلخ،
للانتفاضة الشعبية نظرا إلى سلميّتها، حتى إن لم تكن المقاومة الشعبية كذلك
يوما، بل أصبحت كذلك بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، وأصبحت تحيل على اللاعنف
والسلبية المفرطة، وتعرية العدو، والكشف عن وجهه البشع... إلخ، يعبر عنها عبر
أغنية تعكس الموقف السياسي الفلسطيني (ازرع ليمون... ازرع تفاح) وهي محط للسخرية
في الشارع الفلسطيني، إذا فما بال هذه الطبقة الوسيطة تشجع اللاعنف وتحبذه دون
غيرها؟"(ص 155).
فـ "دور المثقف المشتبك في إيقاف ثرثرة العقل وإسكاته أو
النوستالجيا في نقد المقاومة تحت ذريعة التغني بالانتفاضة الشعبية، هو أبعد ما
تكون للشعب من أرواح الأمكنة التي ينبع منها الحضور والمقاومة الشعبية والتجربة
المشتركة التي تراكمها الجماهير في حرب الأمكنة؛ فعلى المثقف أيضا أن يكون متصلا على نحو ملموس بالمعركة المحسوسة، ويقرأ ما هو لمصلحتها ولمصلحة الشعب، والحضور في
القدس، التي طالب بها من الناحية المعنوية، والتي كانت المقاومة الغزية موفقة من
حيث ربط إعلانها المقاومة وإطلاق صواريخها تحت مسمى (سيف القدس)، لما للاسم من
معنى ودلالات غنية تلائم الحدث والمكان، وليس لمطالب مرتبطة بفك الحصار عنها، وعلى
الرغم من أهميته" (ص 159).
وأخيرا، في معركة الأمكنة، لا يوجد تحرير مكان بشكل كامل؛ لأن
استعادته تكون مرحلية، ولا يوجد فيه إملاء شروط كاملة وفقا للمقاومة، فكسب معركة
أو حتى خسارة أخرى في مكان آخر، ليس مهما؛ لأننا لسنا في مرحلة كسر العظم بعد،
الأهم هو أنه في خضم كل معركة واشتباك نقوم باستكشاف الأساليب التي تدمر وتؤلم
الاستعمار الإحلالي.
*مؤرخ فلسطيني