ظلت
غزة عنوانا كبيرا للصمود والتحدي منذ فجر التاريخ حتى اليوم، ولم يعرف
الصبر مكانا في العالم كما عرف أهل غزة، ولم يكتب التاريخ من قبل صورا للتضحية
كتلك التي كتبها عن رجال غزة ونسائها وأطفالها..
واليوم غزة تزرع البارود والنار، والنفط يسقي زرعها بالدخان والخذلان.. وظل
شاطئها مفعما بالغضب والعنفوان، وظل النفط يلوث موجها بالقار والعار.. كانت غزة
تتكئ على الرمال قبل أن يتاجر النفط بدمنا ويدفع فاتورة القتل الجماعي.. غزة لها
بواك، وليس لها من أطنان الدراهم والريالات سيف يضرب على يد اللصوص، ولا قرنفلة
تُركز على قبر شهيد.. غزة اليوم شهيدة بلا مشيعين، ودمار ولا مسعفين.. غزة تجوع
وتعطش، والتخمة تنفخ الكروش لتحيل الذكور إلى حوامل في هزيعها الأخير من الولادة..
نحو 2.5 مليار عربي ومسلم لا يستطيعون إدخال قنينة ماء لطفل يكاد يموت عطشا
قبل أن يموت بقذائف طائرة وسيمة صُنعت في بلاد العم سام خصيصا لقتلنا نحن العرب؛
لتبقى إسرائيل متربعة على عروش حكامنا تأمر وتنهى كما يحلو لها الأمر والنهي..
نعم لقد قُتل منا أعداد كبيرة وخسرنا من أطفالنا ونسائنا ورجالنا ما طاف عن
13 ألفا حتى اللحظة، وربما وصل العدد اليوم إلى أكثر من 14 ألفا بعد المجازر
الجديدة.. نعم لقد دمروا المنازل والبنايات والمستشفيات والمدارس والبنية
التحتية.. نعم لقد روّعوا أطفالنا، وقتلوا طفولتهم، ويتّموا من بقي منهم.. نعم لقد
تعرضنا لمذبحة وحشية فاشية لا رحمة فيها ولا إنسانية.. نعم لقد جاع أهل غزة وعطشوا
وتعروا وفقدوا ما يملكون من كل ما هو مادي، لكنهم ظلوا أقوياء محتسبين صابرين
جلدين..
يواجه مقاتلو المقاومة الأشداء الموت بصدور مكشوفة وتحد لا مثيل له..
يواجهون الدبابات بهدوء وثقة بالنفس عالية، مع أن الكيان الصهيوني حشد لهم مئات
الدبابات المحصنة. ولا شك بأن هدنة الأيام الخمسة التي سيتم فيها تبادل الأسرى،
ستكون فرصة مهمة لهم ليستعيدوا التنسيق والإعداد للمواجهة من جديد، وهو ما أعتقد
جازما بأنه سيكون كارثة على جيش
الاحتلال..
نعم لقد كانت خسارتنا في أرواح المدنيين ومقدراتهم المادية كبيرة، لكن
الكيان الصهيوني خسر الكثير، ويكفيه خسارة ما سقط من جنودهم بين قتيل وجريح من
قوات النخبة التي يفخرون بها، والتي جعلتها المقاومة أضحوكة في عين العالم، ويكفي
ما تتعرض له المدن والبلدات الإسرائيلية من دمار وقتل ورعب جراء صواريخ المقاومة
التي حرقت تل أبيب وأشعلت النيران في العديد من مدنه، ناهيك عن المعارك الاجتماعية
والسياسية بشأن الأسرى لدى المقاومة وبشأن الوضع الاقتصادي، والنزوح الداخلي
والهجرة المعاكسة؛ فالكيان الصهيوني يتمزق من الداخل، وبعد انتهاء الحرب سيشتعل
الكيان بمشكلات لها أول وليس لها آخر.
ويعاني الكيان المحتل اليوم من تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتوقف عدد كبير من
المصانع والمزارع؛ فقد تم تسريح نحو 120 ألف عامل وموظف، يضاف لهم يوميا نحو 5000
جدد.. وقد وصل التضخم لأول مرة منذ سنوات طويلة إلى 5 في المئة بعد أن كان قبل الحرب 3.3 في المئة، وبات أداء البورصة الأسوأ في العالم.
ومع أن الشعوب تجتمع في الحروب ولا تتفرق؛ إلا أن المجتمع الصهيوني يعاني
من تمرد وانشقاقات وغضب استثنائي سيكون كارثة عمياء تحل على رأس نتنياهو وحكومته،
في ظل الخسارات الكبرى على كل صعيد وليس سمعة دولة الاحتلال في العالم أقلها؛ فقد
تنبه العالم إلى إجرام حكومة الاحتلال وجيشها بشكل سافر لا لبس فيه ولا مجال
للخداع الذي اعتاد عليه إعلامهم العسكري والمدني طوال الأعوام السابقة.
ويجتمع اليوم على الكيان المحتل ضغطان كبيران، أولهما الضغط الدولي
المتزايد يوميا، ناهيك عن الضغط الشعبي في كل الاتجاهات من الكرة الأرضية،
والثاني: عدم القدرة على تحقيق نوع من الانتصار على حركات المقاومة، اللهم
باستثناء الانتصار على دم الأطفال والأجنة، وهو ما سيفضي بالضرورة إلى محاسبة
الكيان دوليا، فهو لن يفلت هذه المرة من العقاب، وسيكون مردود ذلك سلبيا جدا على
سمعته التي تلونت بدم الأطفال والنساء حين عجز عن هزيمة الرجال، وما هذا القصف
العشوائي المدمر وقتل المدنيين إلا مؤشرا على هزيمة قاسية، ووشاية على الهستيريا
التي أصابتهم في مقتل جراء طوفان الأقصى، فهم يبحثون عن نصر زائف، ولا يجدونه إلا
في دم الأبرياء من أبناء شعبنا الصامد.
يجتمع اليوم على الكيان المحتل ضغطان كبيران، أولهما الضغط الدولي المتزايد يوميا، ناهيك عن الضغط الشعبي في كل الاتجاهات من الكرة الأرضية، والثاني: عدم القدرة على تحقيق نوع من الانتصار على حركات المقاومة، اللهم باستثناء الانتصار على دم الأطفال والأجنة، وهو ما سيفضي بالضرورة إلى محاسبة الكيان دوليا
وفي الوقت نفسه، لا بد لنا من تأمل المشهد بأكمله؛ لنحس بأن عمر الكيان
الصهيوني يوشك على النفاد، فمن استطاع أن يدخل غلاف غزة ويقتل ويأسر ويدمر ويخرج
بلا أدنى خسارة؛ فهو قادر -في السنوات القليلة القادمة- على الوصول إلى القدس
ويافا وحيفا؛ بوعي جديد وتخطيط محكم وإعداد عسكري وتنسيق مع جبهات أخرى، وهو ما
نراه بقلوبنا وعقولنا وبدورة التاريخ ونبوءاتهم هم، وقناعاتنا نحن.
لقد آن لشعوبنا العربية الأبية التي لم تتوان عن الوقوف إلى جانب إخوتها في
غزة، وتبرعت بأموال طائلة للقطاع وأهله، وهو ما عرفناه من أشخاص يعملون في جمع
التبرعات في الأردن على سبيل المثال لا الحصر، وكذلك في قطر والكويت وغيرهما.. لقد
آن أن تنتفض الشعوب على الظلم والكبت والمواقف الجبانة لحكامها وخصوصا في مصر وبعض
دول الخليج، وآن لأهل غزة أن يحسوا بأنهم ليسوا وحدهم، وهو ما يعزز من قوتهم
وصمودهم واستمرار مقاومتهم.
رغم الجراح والدم والدمار؛ فلن تسقط غزة، ولن تستسلم بإذن الله،
"والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" صدق الله العظيم.