تواصل قوات الكيان المحتل قصفها الوحشي على رؤوس المدنيين في البيوت
والمدارس والمستشفيات، مع الحضور الوقح للسياسة الدولية المنحازة بشكل سافر، لم
يكن أحد ليتوقعه -قبل طوفان الأقصى- بكل هذه البجاحة والصفاقة التي كشفت عن الوجه
الحقيقي للقيم الغربية التي تدعي حماية حقوق الإنسان، وتنادي طوال الوقت بالحرية
والديمقراطية وإنسانية الإنسان، بينما تسمح للكيان المحتل بحرق قطاع
غزة، وتدافع
عنه، وتدفع له المال، وتمده بالعتاد، وتعمل بكل وسيلة ممكنة لرفع روحه المعنوية
الهشة المنكسرة.
وبعد دخول اليوم الرابع والعشرين لعمليات القصف الوحشية التي أودت بأكثر من
8000 شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ؛ يكتشف العالم لأول مرة بأن ثمة منظمة
فلسطينية مسلحة تتسم بالشجاعة والثبات والقوة والعناد والوعي، ويتعرف للمرة الأولى
إلى هذا النوع من الرجال الذين أذلوا رقاب العدو، وأهانوا غطرسته وجبروته؛ لتنفلت
مواقفهم من عقالها؛ محاوِلةً بث الرعب في نفوس الفلسطينيين ونشر اليأس والإحباط
بين صفوف المقاتلين؛ غير مدركين لمعادلة غريبة عنهم، لا يحسنون وعيها، وهي معادلة
استواء الموت والحياة، ليس في نفوس المقاتلين فقط، بل في نفس كل فلسطيني حر على
هذه الأرض الصلبة.
المواقف العربية:
في هذه الأثناء، وعلى الجانب الآخر ثمة عرب مواقفهم أسوأ من مواقف الغرب،
ولا يقلون عنه سوءا في محاولة تخذيل الفلسطينيين
وتيئيسهم؛ فالحكومات العربية بين جبانة مرتعشة، ومرتهنة مشاركة في الحرب، وإلا
فماذا يعني أن يزور قائد سلاح الجو الإماراتي الكيان الصهيوني أثناء القصف الهمجي
لقطاع غزة؟! والقادم من الأيام سيكشف ما
خفي اليوم. وهذه وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي الإماراتية تصف ما قامت به
حماس بـ"
الجرائم البربرية والشنيعة"، وطالبتها بالإطلاق الفوري وغير
المشروط لجميع الرهائن، وأضافت بأن جرائم حماس بحق المدنيين لا يمكن أن تبرر سياسة
العقاب الجماعي تجاه قطاع غزة!!
إن المشاركة في الحرب لا تعني بالضرورة أن يقاتل
جيش عربي إلى جانب المحتل، بل إن الصمت مشاركة، ولوم المقاومة وتحميلها المسؤولية مشاركة،
والبث الإعلامي الملوث مشاركة، والحفلات الماجنة في الرياض مشاركة، واستقبال الصهاينة في العواصم العربية مشاركة..
لقد أثبتت الحكومات العربية تواطؤها وجبنها وضعفها بطريقة تبعث على الاشمئزاز وقشعريرة
الضلوع؛ مما جعلني اليوم وأنا أتأمل المشهد العربي، أسأل نفسي: ماذا لو كان صدام
حسين رحمه الله حيا؟! لا يساورني أدنى شك، بأنه كان سيدخل المعركة بقض العراق وقضيضه،
مهما كانت النتائج؛ لكننا اليوم أمام إمعات ورويبضات لا تحرك ساكنا، ولا تفتح
حدودا، ولا تستطيع إطلاق تصريح قوي واحد كذلك الذي أطلقه أردوغان الأحد (29 تشرين
الأول/ أكتوبر)، حين قال: "حماس ليست حركة إرهابية، بل حركة تحرير وطني"،
وأضاف: "
إسرائيل بدون دعم الغرب لن تصمد أكثر من ثلاثة أيام"، وخاطب
الغرب: "سكبتم الدموع للمدنيين الذين يقتلون في أوكرانيا.. فأين دموعكم
للأطفال الذين يقتلون في قطاع غزة"؟!
وهنا أتحدى أي زعيم عربي بأن يصرح بمثل ما صرح به أردوغان، ولو نفاقا،
لكنهم أصغر من أن يسجلوا موقفا للتاريخ، وأضعف من أن يفكروا مجرد تفكير في أن
يغضبوا الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والغرب بعامة، ناهيك عن عجز مصر عن فرض
موقف رجولي صغير على الكيان المحتل، فإدخال المساعدات ومقدارها بأوامر من إسرائيل،
وإدخال الوقود الذي تمنع الأخيرة دخوله، لا تستطيع الحكومة المصرية تخطيه أو حتى
مجرد الحديث عنه أو التوسط فيه..!!
وأمام هذا المشهد القائم اليوم؛ فإن الفلسطينيين لا ينتظرون عونا من أحد،
ولا يتوقعون أن تتغير المواقف العربية، ولا أن يخرج من بينهم رجل يشبه المعتصم أو
صلاح الدين؛ فهم ليسوا أكثر من خدم صغار لأسيادهم وأولياء كراسيهم التي باتت تقف
على ثلاثة أرجل بعد معركة طوفان الأقصى التي شكلت فارقا في تاريخ أمتنا الحديث،
بعد أن ظلت لعقود تتلقى الهزيمة إثر الهزيمة، باستثناء حرب أكتوبر 1973، ومعركة
الكرامة 1968.. إضافة إلى انتصار حزب الله وإخراج العدو من جنوب لبنان يجر خلفه
أذيال الهزيمة 2006..
الموقف الغربية:
على الرغم من تصريحات بايدن الهجينة المملوءة بالكذب والنفاق، إلا أن ثمة
أصواتا داخل الكونغرس وخارجه من بعض الساسة والبرلمانيين عبروا بحرية عن آرائهم،
وكان آخر تصريح مفاجئ أمس الاثنين حين قالت نائبة الرئيس الأمريكي "كامالا
هاريس": "الفلسطينيون يستحقون إجراءات متساوية للسلامة والأمن وتقرير
المصير والكرامة"، كذلك تصريح وزارة الخارجية الأمريكية: "ندرك أن آلاف
المدنيين قتلوا في قطاع غزة، وأن بينهم أطفالا، وهذا بحد ذاته مأساة"، وصرح وزير
خارجية النرويج: "إسرائيل تمادت كثيرا"؛ بينما قامت بريطانيا بإقالة
النائب البريطاني "بول بريستو" من منصبه بعد دعوته لوقف إطلاق النار في غزة،
وهو سكرتير برلماني لوزيرة العلوم والابتكار والتكنولوجيا، كذلك فقد هاجمت وزيرة الداخلية
البريطانية تظاهرات التضامن مع فلسطين، ولوحت بتعديل قانون التظاهر، وكتب وزير
الخارجية البريطاني "جيمس كليفرلي" في منشور على مواقع التواصل
الاجتماعي: "تندد بريطانيا على نحو قاطع بالهجمات المروعة التي شنتها حماس
على مدنيين إسرائيليين. وستدعم دائما حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
وكان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن قال في وقت سابق: "خلال الأيام
المقبلة، ستعمل وزارة الدفاع على ضمان حصول إسرائيل على ما تحتاجه للدفاع عن نفسها
وحماية المدنيين من العنف العشوائي والإرهاب".
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ فقد كان الأشد عداوة وحقدا على حركة
حماس، وأكثر زعماء أوروبا تشددا في مواقفه المنافقة، فقد استنكر بشدة الهجمات على
إسرائيل، ووصفها بالإرهابية، وكتب على منصة إكس: "أعبر عن تضامني الكامل مع الضحايا
وعائلاتهم والمقربين منهم"، كما أنه قام بزيارة تضامنية للكيان الصهيوني
والتقى نتنياهو.
من جانبه، وصف المستشار الألماني أولاف شولتس على وسائل التواصل الاجتماعي
ما يجري في إسرائيل "بأنه أخبار مروعة"، وأضاف: "لقد صدمنا بشدة من
إطلاق الصواريخ من غزة وتصاعد العنف.. تندد ألمانيا بهذه الهجمات التي تشنها حماس
وتقف إلى جانب إسرائيل".
ولم يختلف رئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو" عن الآخرين، فكتب
على منصة إكس بأن "بلاده تندد بشدة بالهجمات الإرهابية الحالية على إسرائيل"،
وأضاف: "أفعال العنف هذه غير مقبولة مطلقا.. نقف مع إسرائيل وندعم بالكامل
حقها في الدفاع عن نفسها".
أما الأمم المتحدة، فقد فقدت مبرر وجودها بعد المواقف المؤلمة للولايات
المتحدة وحلفائها الغربيين الذين انتصروا للكيان الصهيوني بلا وجه حق، ولم يبدوا مجرد
أسف على قتل الأطفال والنساء، وتدمير المباني والبنية التحتية بشكل هستيري، وكأن
الفلسطينيين ليسوا من البشر. وقد وقف الأمين العام للأمم المتحدة موقفا مشرفا
نسبيا حين طالب بوقف الحرب فورا، لكنه وقف وحيدا في وجه الغطرسة الصهيونية التي
هاجمته وطالبت بعزله..!!
ماذا تبقى من شرعية للأمم المتحدة وهي مسكونة بإرادة الولايات المتحدة
ونفوذها والفيتو اللعين؟ إن الأمم المتحدة وخصوصا مجلس الأمن مسخّرة لخدمة مصالح
الولايات المتحدة وحلفائها دون غيرهم من البشر، وهو ما يستدعي إعادة النظر في
أنظمة المنظمة وقوانينها التي عفا عليها الزمن.
موقف الكيان الصهيوني:
الكيان الصهيوني يعاني معاناة شديدة، والخلافات الداخلية بلغت أشدها، وأمس
خرجت تظاهرات تطالب بإزاحة نتنياهو فورا، ناهيك عن موقف الأخير الصعب إزاء مشكلة
الأسرى الذين تطالب أسرهم بتحريرهم، ولا تتوقف عن التظاهر والتجمع والتصريح لوسائل
الإعلام، بما يشكل أزمة جديدة تقع على رأس نتنياهو الذي يتخبط كالمجنون، في ظل
خلافات متجددة يوميا مع القادة العسكريين والأمنيين؛ فثمة من يحبذ التهدئة وتبادل
الأسرى، وهو يصر على اقتحام القطاع، لأنه يعدّ وقف الحرب انتصارا لحماس، وهو ما
سيضعف موقفه ويضعه في موضع المنهزم، لكنه في حالتي استمرار الحرب والهدنة؛ سيظل
خاسرا ومجرما في عين الشعب الإسرائيلي.. فكلا الخيارين سيعجّل في مسحه من تاريخ
الكيان، ووصمه بأسوأ النعوت التي لن تقل عن "رئيس وزراء فاشل، دمر
إسرائيل"..!!
أضف إلى ما سبق الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه الكيان اليوم؛ فقد
خسر الشيكل نحو 35 في المئة من قيمته، ناهيك عن خسائر الحرب التي يتكبدها كل يوم
والتي تقدر بنحو مليار دولار يوميا، وغادر الكيان 800 ألف شخص متوجهين إلى دول
الغرب، وخصوصا ممن يحملون جنسيات مزدوجة، ونزح نحو 500 ألف من السكان نزوحا
داخليا، وباتت عشرات المستوطنات فارغة من سكانها تماما، وتوقفت حركة الطيران،
والمصانع والمدارس والجامعات والمزارع والمطاعم والمتاجر الكبرى.. إن الكيان مهشم
من الداخل، وكل شيء فيه يقول: لقد حطمتنا حماس وكسرت شوكتنا..
هل سيتم اجتياح غزة؟
ما زلت منحازا لمقاربتي السابقة التي تفيد بأن الاجتياح لن يتم؛ ذلك أن
أركان الحكومة في الكيان تخشى من مزيد من الخسارة، وقد أجرت اختبارا لمقاتلي
المقاومة بتجاوز الحدود، وخرجت تجر أذيال الخيبة، بعد أن خسرت عددا من جنودها
وضباطها ومعداتها الثقيلة؛ فاجتياح قطاع غزة ليس بالأمر الهين، لأن كل مقاتل في
حركة المقاومة هو قنبلة موقوتة و"مشروع شهيد"، عكس الجنود الصهاينة
المرتعشين الذين يبكون خوفا من مواجهة مقاتلي المقاومة المدربين على كل الاحتمالات
والذين باتوا ينظرون باستخفاف شديد إلى الجنود الصهاينة بعد أن أذلوهم في معركة
طوفان الأقصى..
إن اقتحام قطاع غزة بريا مغامرة صعبة قد تضاعف الهزيمة وتنكل بالجنود
الإسرائيليين، وتقضي على ما تبقى لديهم من روح معنوية، إن كان لم يزل لديهم شيء
منها؛ لذلك فإنني أتصور أن الأمور ذاهبة إلى التهدئة، وخصوصا بعد أن بدأت الأصوات
في الغرب تعلو مطالبة بوقف الحرب، مع عدم التقليل من أثر التظاهرات العارمة التي
اجتاحت معظم أو كل العواصم الغربية، وشكلت هرما صاعدا من الاحتجاجات المؤثرة بما
حملته من شعارات وعبارات قوية كسرت حاجز الرهبة، في ظل العربدة الصهيونية التي لم
يحتملها المواطن الغربي وهو يرى دم الأطفال يسيح في الشوارع ويلوّن الجدران
بالأحمر؛ فقد كان للاستخفاف بقتل الأطفال والنساء الدور الأكبر في انقلاب المزاج
الغربي العام.
وباختصار؛ فإن الكيان الصهيوني في أسوأ حالاته منذ أن وجد عام 1948، فهو
اليوم يقف حافيا على صفيح حارق، مفككا ممزقا، بكل ما في الكلمة من معنى، وإن حالت
الأوضاع في غزة دون التركيز على الحالة الإسرائيلية إلا أن الواقع الذي تصفه وسائل
إعلامهم يؤشر على كيان مهشم محطم من الداخل، وبعد أن تتوقف الحرب، سنشاهد حربا
جديدة أشرس مما شاهدنا ونحن نراقب انهيار البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
لهذا الكيان الذي عرّته بندقية المقاومة، وجعلت منه أضحوكة في كل مكان، وصار
التندر بما قامت به المقاومة فعلا يوميا في وسائل إعلام العالمي، إلا الإعلام
العربي، باستثناء بعض الفضائيات التي تأسست بعيدا عن شباك الخيانة..
وللحديث بقية..