حلَّت نكبة
فلسطين عام 1948، وصحِبها نزوح 15 ألف فلسطيني من أرضهم
إلى
لبنان، مبتعدين قرابة 67 كم عن حدود وطنهم، قاطنين في بقعة لا تتجاوز مساحتها
3 كم مربع، ومنذ تسجيل الأمم المتحدة عبر وكالتها (الأونروا) للمخيم على تلك
المساحة، لم تتغير الرقعة الجغرافية، لكن تضاعف العدد المسجل بالمخيم ليصل إلى 50
ألفا، بخلاف غير المسجلين.
تحكي الوقائع أن جريمة ثأر أشعلت أحداث المخيم، وعندما حاول قائد
الأمن الوطني الفلسطيني بمنطقة صيدا اللواء أبو أشرف العرموشي ضبط الأمور قبل
انفلاتها، اغتيل مع بعض مرافقيه، لتشتعل الأحداث مخلفة، إلى الآن، 11 قتيلا وأكثر
من 60 مصابا، وألفيْ نازح من المخيم، بعد النزوح الأول من وطنهم الأصلي، وتضرر
أكثر من 700 منزل، كما تسببت الاشتباكات في انقطاع خدمات أساسية عن سكان المخيم
-خصوصا الكهرباء-، وتعذر إدخال المواد الغذائية والإغاثية بسبب نشاط القناصة.
ما يشهده مخيم عين الحلوة، وأي اقتتال فلسطيني ـ فلسطيني، ينهش في
جسد القضية من داخله، ويكفيها الخذلان من محيطها العربي والإسلامي، وربما يستحيل
تفسير الأغلبية الساحقة من الصراعات دون إدخال عنصر العدو الأساسي للفلسطينيين،
وهو الكيان المحتل، فيده ضاربة في النزاعات والشقاق، التي كان أشرسها ما وقع بين
حركتي فتح وحماس عام 2007.
تكتسب القضية الفلسطينية قوتها من وَحدة شعبها، وهكذا أي قضية تتعلق
بحقوق جماعة من البشر، والعداوات تعني تمزيق فرص التماسك على جبهة النضال السياسي
والعسكري كذلك، فكيف يحمي شخصٌ غيرَه وقد كانا يتقاتلان بالأمس؟ وكيف يتفق الفرقاء
على توزيع المناصب السياسية وهم متناحرون؟ فوحدة الجماعات الفلسطينية غاية من ضمن
غايات التحرير، كما هي سبيل إليه أيضا.
الحسرة أن تجد مخيما مثل مخيم جنين ينتصر بوَحدة أبنائه، وتجد مخيم
عين الحلوة (شديد الرمزية، ويُطلق عليه عاصمة الشتات الفلسطيني) اعتاد أبناؤه على
الصراع والاقتتال، لا مجرد أن يختلفوا سياسيا بعضهم مع بعض، وربما هذا فارق بين مخيم
الداخل والخارج، فالعدو المباشر دائم الاحتكاك يزيد شعور الوحدة، بينما مخيمات
الخارج ليست على نفس درجة الاشتباك مع العدو، رغم الاشتراك في
"التغريبة"، وربما كانت رمزية ومكانة المخيم سببا في استهداف استقراره،
وتشويه صورة فلسطينيي الخارج.
تُعد مخيمات الخارج صورة وواجهة للقضية الفلسطينية، صحيح أن جميع
الفلسطينيين في الشتات ليسوا من سكان المخيمات، ولهم نجاحات كبرى في مجالات
متنوعة، لكن تبقى المجتمعات الفلسطينية المحتشدة في المخيمات عنوانا للفلسطينيين
وللقضية كلها أمام أبناء الدولة التي يعيشون فيها، وأمام العالم كله إذا وقع
انفلات أمني كما يحدث الآن، وواجب القوى الفلسطينية أن تسعى للحفاظ على وحدة هذه
المجتمعات، وإنهاء الانفلات الأمني فيها، وللمحافظة، من ثم، على الصورة الذهنية
للشعب الفلسطيني وقضيته.
بالتوازي مع النقاش عن المخيمات، فقد جرت مقارنة بين بلال بدر في
مخيم عين الحلوة، مع شاكر العبسي في مخيم نهر البارد، وكان الأخير قد دخل
مواجهات
مع النظام اللبناني، ونهب بعض البنوك، ما استدعى تدخل الجيش عسكريا حتى قضى على
التنظيم ودمَّر المخيم، وهنا نشير إلى نقطة لآثارها العميد المتقاعد في الجيش اللبناني
جورج نادر، فقد اعتُقل العبسي في سوريا وخرج بالتزامن مع الانسحاب السوري من
لبنان، وانتقل إلى لبنان مباشرة، ما يعزِّز فرضية عمالته للنظام السوري في تلك
المرحلة، خاصة أنه عبث بالأمن اللبناني والفلسطيني على السواء.
القصد، أن المقارنة بين الاثنين، تستدعي تدخلا مشابها، لكن اختلاف
المواقف دفع الجيش اللبناني إلى عدم اتخاذ نفس الأسلوب؛ فالعبسي هاجم النظام
اللبناني، بينما بدر هاجم قوة فلسطينية، ومخيم نهر البارد لا توجد فيه سيطرة
فصائلية، بينما عين الحلوة توجد فيه الفصائل بقوة خاصة حركة فتح، ثم هناك رمزية
الأخير "عاصمة الشتات"، فهذه العوامل تجعل التدخل اللبناني صعبا دون
غطاء سياسي فلسطيني.
يقال؛ إن المخيم اكتسب اسمه من نبع ماء حلوة "عذبة" كانت بالقرب من موقع المخيم الحالي استخدمها النازحون الأوائل، لكنها نضبت الآن، ككثير من الأمور "الحلوة" التي نضبت، لكن بغض النظر عن كل شيء نضب، وكل حلو تكدَّر، ستبقى فلسطين دوما هي "الحلوة" بالنسبة إلينا.
في سياق متصل، هناك تفاهم بين اللبنانيين والفلسطينيين على ترك إدارة
المخيمات لأبنائها، وربما ساهم ضعف المركزية اللبنانية في الوصول إلى هذه الحالة،
لكن الغريب والمزعج أن تكون لدى بعض الفصائل قذائف هاون! فمجرد الأسلحة الخفيفة
تكفي لضبط أمن المخيم، فأين رقابة الجيش على مداخل المخيم؟ وما هو دور الفصائل وهي
تسمح بدخولها أو لا تستطيع منع دخولها؟ هذه النتيجة المقلقة تستدعي إعادة ترتيب
العلاقات الأمنية بين الأطراف داخل وخارج المخيم، ومن ضمنها تحديد نوع وكمية
السلاح المسموح به، وهذا دور الفلسطينيين في المقام الأول؛ نظرا لضعف المركزية
اللبنانية من جهة، ولأنهم المعنيون بسلامة المخيمات أكثر من غيرهم، من جهة ثانية.
هذه الأحداث ينبغي أن تفتح نقاشا فصائليا واسعا عن أحوال المخيمات
الأمنية، وكيفية إعادة ضبطها، ونقاشا أوسع بين المعنيين بالقضية، عن الأوضاع
الاقتصادية والمعيشية لأبناء المخيمات، والأحوال المعيشية تحديدا بوابة كل شر
وتطرف فكري وسلوكي، وبداية حلها سيعزِّز من الأدوار التعليمية والثقافية العاصمة
من التطرف، فنادرا ما يُقبل المحتاج على التعلم بمثل إقباله على العمل، وضعف
التحصيل الثقافي والعلمي قد يدفع إلى الانحراف بحسب البيئة المحيطة بالشخص، فإذا
كانت متطرفة، أو مجرمة، أو منحلة أخلاقيا، فسيؤول إلى واحد من هذه الأمور.
يقال؛ إن المخيم اكتسب اسمه من نبع ماء حلوة "عذبة" كانت بالقرب من موقع المخيم الحالي استخدمها النازحون الأوائل، لكنها نضبت الآن، ككثير من الأمور "الحلوة" التي نضبت، لكن بغض النظر عن كل شيء نضب، وكل حلو تكدَّر، ستبقى فلسطين دوما هي "الحلوة" بالنسبة إلينا.