كان تحطم الغواصة السياحية (تيتان) في
حزيران الماضي حدثا صاخبا، وشيئا من خارج مألوف الحوادث والمآسي. ولعل مغناطيسية
الحدث تنبع أساسا من امتلائه؛ من كونه دالا باتجاهات شتى، بدءاً من هندسة المركبات
وفيزياء أعماق البحار مرورا باختلال توزيع الثروة وهوس الإنسان بالمجهول وليس
انتهاء بمأساة سفن اللاجئين وحيف التغطية الإعلامية بين هلاك الفقراء ومصرع
الأثرياء.
بين كل هذه المستويات، هناك نافذة للغة لم
تنل من الفضول ما ناله غيرها. ويكفي ـ لتبرير هذا الفضول ـ أن ننظر في جملة الألفاظ التي عَبَرت صوبنا من
خارج قاموسنا اليومي ببركة هذه المَركبة ونهايتها الساحقة. كيف لا والحادثة جرت من
خارج فيزيائنا اليومية وحصلت فصولها بمكانٍ سيموت أغلبنا (إن لم يكن كلنا) دون أن
نبلغه يوما أو نقربه: ثلاثة آلاف ومئتا متر تحت سطح البحر.
حتى يتذوق المرء جسامة الرقم، فنحن نتحدث عن
ثلاث نسخ مائية من جبل أحُد مرصوفة فوق بعضها البعض، وكلها ترمي بثقلها على حُجرة
مصمتة بأسفلها يتكوّم فيها خمس رجال. ولو رَميت نفسك من علوٍّ كهذا في الهواء
فستلزمك نصف دقيقة كاملة حتى تبلغ الأرض. هذه -في فقه الموائع وحسابات الأعلى
والأسفل- مسافة هائلة تنجلي عندها ظواهر مريعةٌ بحقّ وتحتاج في وصفها لغةً لا
يألفها مّن يدبّ دَبّاً على الأرض ويلزم أسطح الأشياء.
في قصة الغواصة الأمريكية أكثر من خيط غريب
يشد الأسماء بالوقائع. اسم المركبة، تيتان، يعني (المارد) وهو رديف للقب السفينة
الغريقة، تايتنك، أي (الماردية). وكما بات معروفا، فالمارد لم يُبنَ أصلا إلا كي
يتلصص على الماردية في سريرها البحري العميق قبل أن يبلعه المحيط ويغفو بجنبها.
الأمر كله يبدو مَطلعا لأسطورة إغريقية حزينة. لكن المفارقة الغريبة هي أن تصميم
الغواصة المذكورة سعى للحد من التكاليف والأوزان عبر التخفف من المعدن الأشهر لهذا
النوع من المَركبات: التيتانيوم، وهو المعدن الذي سُمّي قبل 200 عام قياسا أيضا
على الكائن الأسطوري ذاته في الخرافة اليونانية (التيتان).
اسم المركبة، تيتان، يعني (المارد) وهو رديف للقب السفينة الغريقة، تايتنك، أي (الماردية). وكما بات معروفا، فالمارد لم يُبنَ أصلا إلا كي يتلصص على الماردية في سريرها البحري العميق قبل أن يبلعه المحيط ويغفو بجنبها.
وربما كان الكيميائي الألماني الذي سمّاه،
كلابورث، أول من شق طريقَ المردة لمعجم العلوم وجعل من هذه الكائنات الأسطورية مجازا
علميا. وهنا طرَف من غرابة هذه المَركبة ومفارقتها الموحية؛ أنها خانت اسمَها في
جسمِها واستخدمت عوضا عنه بدائل تركيبية من غير دنيا المعادن. يقولون أن لا مشاحة
في الألفاظ، لكنّ سببا محتملا لهلاك هذه المركبة هو أنها لم تأخذ اسمَها على محمل
الجدّ ولم تكن تيتانية تماما.
يستحق هذا الأمر تفكيرا: تسميةُ أشياء
حديثةٍ جداً بأسماء موغلة في القِدَم. ليس الأمر حكرا طبعا على العالم الغربي
ومخترَعاته. لدينا اليوم صواريخ ومُسيّرات مسماة بأدبيات الغزو الحبشي للكعبة
والعناية الإلهية التي حرستها؛ سجيل وأبابيل مثالان وحسب لأسلحة من القرن الحادي
والعشرين سمّيت بوحيٍ مما جرى قبل ظهور الإسلام. حتى الصهاينة سَمّوا أعقد أنظمتهم
الدفاعية مقلاع داوود. الأمر بالتأكيد يشحن الاختراع المعاصر بحمولة مقدسة، لكنه
يبدو أيضا نزوعا بشريا عاما لإتمام دائرة متخيلة، يعود فيها الحديث ليلتقي بالقديم
ويصيرا شيئا واحدا. ويبدو أن اللغة والأسماء لا تزال بركارَنا المفضل لرسم هذه
الدوائر.
هناك خيط لغوي آخر يخص ما حصل ويتعلق بلغتنا
على وجه التحديد، فوصفُ تحطم الغواصة استلزم لفظا غائبا عن العربية كان يُترجَم
عادة "بالانفجار الداخلي"، أي تفجّرٌ يَخسف بالأشياء صوب مركزٍ داخلَها
ولا يرميها بعيدا كما هي عادة الانفجارات. وفجأة، ظهرت في مواقع الإعلام والصحافة
مفردة "الانبجار".
لست أدري أول من اقترح الانبجار توأما للانفجار كي
يؤدي هذا المعنى الخاص للخسف الداخلي، لكنه اقتراح مُغرٍ لجيرته الصوتية مع الانفجار
ولمعناه القديم المتعلق بالتجمّع والتعقّد. الغائب الوحيد في هذه
الترجمة هو
عنفوان الفعل وسرعته. ويبقى السؤال قائما: مَن اشتَق لفظ "انبجار" وأوكل
له هذا المعنى؟
محتاجون، وفاءً لأنفسنا ولغتنا سويا، أن نبحث في هذا السؤال: هل فقدنا من معجمنا أكثر مما فقد سوانا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف انعكس فقرٌ كهذا على تفكيرنا وإدراكنا، وكيف انعكس ذلك بدوره على أحوالنا وأوضاعنا بل وعلى وجودنا نفسه؟
تورِد ويكيبيديا العربية مقالا كاملا تحت
عنوان "الانبجار"، وتَنسب في هامش مبكر هذه الترجمة للراحل الكبير أحمد
شفيق الخطيب. ليست ويكيبيديا العربية (على نفعها الكبير) مرجعا موثوقا بشيء، لكنها
المشبوه الأول عند انتشار شيء فجأة وبلا سابق إنذار. لا تكشف العودة لمعجم
المصطلحات العلمية الذي وضعه الخطيب ذكراً للانبجار (والمعجم المذكور عملٌ قدير لم
ينل حقّه يوماً من الاهتمام)، فالراحل لا يورد إلا "انفجار إلى الداخل"
تعريبا لمقابلها الإنكليزي في نسخة
معجمه السادسة. الخطيب صاحب إنتاجات قاموسية
غزيرة جدا والوصول لبعض معاجمه الأولى مسألة عسيرة، وعليه يصعب الجزم
"ببراءته" من هذا اللفظ. لذلك، تبدو هوية المترجِم الأول لغزاً لحدّ
الآن.
يخطر ببالي أن حلا مناسبا آخر يمكن أن يفعل
التالي: أن يحاكي فارق الانفجارين (المتعاكسين بالاتجاه) فيقلب ترتيب الكلمة ويعكس
منازل حروفها. والواقع أن الترجّف (بوصفه عكس التفجّر في ترتيب الحروف) يستحق
التفكير خصوصا أن معاني اللفظ مرتبطة تاريخيا بالزلزلة والاهتزاز والحركة العنيفة
بالإضافة لألفة الناس بفعل الارتجاف وصوت الكلمة.
لماذا يقترح المرء ترجمات يَعرف سلفاً أنها
ستذهب أدراج الرياح؟ لربما أن أدراج الرياح ليست مكانا سيئا بالضرورة والتأملُ في
ألاعيب الترجمةِ الممكنة فعلٌ مفيدٌ بذاته بعيدا عن وقْع الترجمة الفعلية وفرص
نجاحها، فهذه مداخل غنية للتفكير باللغة، وحجةٌ حميدة لزيارة المعاجم. لكن هناك ما
هو أهم في إدراك الصعوبة الجمّة في تعميم ترجمة جديدة للفظ مهم ولازم: في كل تعريب
جديد قدرٌ من التكلّف، ومهما بلغت براعة النحت لمن يأتون بألفاظ جديدة، فإن
تقبّلها ليس سهلا على النفس، فرابط الصوت بالمعنى يكون هشاً وقلقاً.
أمام هذه
الصعوبة، لا يملك المرء إلا أن يُقدّر كل تعريب قديم وصلنا من أجيال سابقة ونشأنا
عليه حتى ذاب صوتُه بمعناه وتحققت فيه معجزة الكلمة الحقّة. لكل أولئك النحّاتين
الأوائل، الذين تجشّموا -مع قرائهم- تكلّف الألفاظ التي عرّبوها، وأورثونا أصواتا
مضمّخة بالدلالة تجري بأذهاننا مجرى السليقة، لا يملك المرء إلا أن يشعر بامتنان
كبير.
يعيدنا لفظ الانبجار لمسألة صعبة لا تَخفى
على أحد: تلك المقبرةُ التي صارَها المعجم العربي بآلاف الألفاظ التي خرجت من
دائرة الاستخدام وصارت جثثا صوتية يجلّها الناس كإجلالهم للموتى وحسب. كل اللغات
تموت فيها ألفاظ وتحيى فيها ألفاظ؛ هذه بديهية يعرفها الجميع، لكنّ السؤال الحَرج
هنا هو هذا: هل مروحة ألفاظنا المستخدمة -محادثة وكتابة- بقدر مروحة اللغات
الأخرى؟ كثيرا ما نتبجّح بمقدار الغنى الذي يحويه قاموسنا، لكن هل يقبع خلف ثراء
مستودعنا الساكن فقرٌ لغوي في سوق التداول؟
لو جمَعنا ـ مثلا ـ كل الألفاظ التي
استخدمها شاعر أو مثقف أمريكي في حياته (تشومسكي أو توماس إليوت)، ثم جمعنا في
مقابلها كل الألفاظ التي استخدمها مثقف أو شاعر عربي في إنتاجه (الجابري أو
السياب)، هل سيكون تعداد الرقمين متشابها، إنجليزيا وعربيا؟ يحتاج الأمر دراسة
إحصائية، لكن لدي من الأسباب ما يدعوني للشك بتساوي الرقمين، ويبدو لي عبر أكثر من
شاهد أن الفضاء اللغوي الذي نتحرك فيه أضيق من فضاءات لغاتٍ أخرى.
غالبا ما تعاني الحوارات حول موضوع كهذا من
رداءة شاملة لأن السجال فيها أشبه بنِزال الملاكمِين، والناس تدخله أما مشهرةً
سيفها للدفاع عن حِمى العربية، أو غارقة في كراهيةٍ مزمنة للذات وتبعية ذهنية
للآخَر.
لقد تداعى معجم العربية على نفسه، أو ربما يصح القول مجازا أنه انبجر على
نفسه. ليس معجمنا وحده من عاش هذه الظاهرة. كل معاجم اللغات منبجرة هي الأخرى،
وألفاظها الحيّةُ المستخدَمة أضيق دوما من فضائها المتاح. لكننا محتاجون، وفاءً
لأنفسنا ولغتنا سويا، أن نبحث في هذا السؤال: هل فقدنا من معجمنا أكثر مما فقد
سوانا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف انعكس فقرٌ كهذا على تفكيرنا وإدراكنا، وكيف
انعكس ذلك بدوره على أحوالنا وأوضاعنا بل وعلى وجودنا نفسه؟