الثرثرة ليست تنظيرا:
الأحكام العامة
هي داء في المجتمعات المتخلفة، لأنها لا تعتد بافتراض المصداقية عند الفرد فيحاول
أن يبين أنه يمثل رأي الناس أو أكثرهم، أو المكانة الاجتماعية أو المكانة العلمية لدعم
رأيه وإقناع الآخرين، غير منتبه إلى أن أكبر العلماء سقطت نظرياتهم التي اكتسبت
الرصانة بمكتشفات أحدث منها.
التنظير من
المصطلحات التي يستخدمها اليوم أشباه المثقفين لتسفيه رأي نخبة المثقفين، وهم
ينجحون في إبعاد الناس عن تبني رأي ينفع الأمة وتضييع الجهد. لقد خسرنا كثيرا من الأفكار
عندما يُصدر إنسان عادي أو مثقف أقل قدرة من مفكر حكما قاطعا مانعا محرجا بأن ما
يقوله فلان هو تنظير، ويعني بذلك أمورا غير مفهومة ولا تطبق، ذلك لأنه يجهل معنى وأبعاد
التفكير الاستراتيجي. وهكذا نجد أن في مراحل مهمة من عمر البلد أُلغي
التخطيط
كوزارة، وبالاستخفاف والتسفيه فقدنا كمّا من الأفكار كانت منطلقات لحلول بعقلية
أصحاب القرار أو من أوكلوهم؛ فكانت مراكز الدراسات لا تعدو كونها ميدالية أو زهرة
تزين سترة تشكيلاتهم التي لا ترتقي إلى تنظيم ناهيك عن حزب، بينما العالم يسير
حثيثا مستندا على مخرجات هذه المراكز التي تضع الأفكار وتنسق لتهيئ للتخطيط المحكم
(الاستراتيجي). وهنا يبدأ خلط آخر ما بين
الاستراتيجية والتكتيك وبين الرقابة
والمتابعة والعملية الكلية كموازنة وبين معادلة الميزانية، ولا يقصد هنا الجانب
المالي فقط وإنما المعطيات والموارد.
التفكير
الاستراتيجي والتخطيط المحكم:
التفكير
الاستراتيجي هو تنظير في الموازنة لأنه ينظر إلى الأفكار المتاحة من خلال دراسة
واقعها وقراءة الحاجة وبيئتها المحيطة، أما من يتحدث بارتجال وبالمفروض أن يكون من
باب الانتقاد وعدم الرضا فهذا ليس تنظيرا بل تفكير متعدد الدرجات، يبدأ من التحسس
ومحاولة الحل والانتهازية، وحتى التفكير النقدي، وهنا تظهر مشكلة الأمة في التحول
نحو التفكير الفلسفي أو الاستراتيجي بالتسطيح والهروب من الجوهر.
فالتنظير إذن
تحتاجه الأمة لأنه دفق فكري لكفاءة المنظومة العقلية البشرية، وهو من مخرجات موارد
أي بلد إن دخل في التخطيط المحكم (الاستراتيجية) لذلك البلد.
الفرق بين
التفكير الاستراتيجي والاستراتيجية التي باتت لا تقتصر على التخطيط العسكري والتي
يمكن تعريبها إلى (التخطيط المحكم) هو أن التفكير يكون في مرحلة العصف الذهني
لمواجهة أي مشكلة ومن أناس مختصين أو لهم اهتمام عميق بالموضوع، لكنه لا يبحث في
التفاصيل، أما الاستراتيجية فهي تبحث في التفاصيل والآليات المتاحة والأدوات، وإمكانية
توفيرها سواء محليا أو استيرادا وتحسب الجدوى الاقتصادية وتجري مفاضلة بين الجدوى وإلحاح
الموضوع أو تغيير معاملات الجدوى لتأخذ في الاعتبار الحاجة للفكرة كقيمة عددية
موجبة لصالح التنفيذ، والمشكلة الحقيقية عندنا هي استيعاب الذات المنفردة لذاتها
ووضع الإنسان نفسه في الموضع الصحيح، أهو عالم أم متعلم؟ وأين أكون عالما وأين
أكون متعلما؟ هل وأنا أحكم على الأشياء والأفكار مستوعب لها كتفاصيل ومآلات؟
عليه يمكن وضع
التعريف للتفكير الاستراتيجي، أو التنظير كما يلي:
التفكير
الاستراتيجي: هو مرحلتان؛ تنظير للكلية المستقبلية لا تلتفت إلى الخلف، تفاعلية، وهي
أيضا منظومة تؤطر وتتفاعل وتتأمل وتستنتج. والمرونة سمة في التفكير الاستراتيجي لأنه
لا يبني على ثوابت وإنما هو ما بعد الهدف لترسم خارطة النوايا التي نزمع القيام
بها، وعندما يحين الوقت سنجد مجموعة كبيرة من مخرجات التفكير، وهنا تبدأ مرحلة
تخطيط محكم لترشح الخيارات ويتم تبني أقربها لهذا الواقع كي نعبر من جديد لتخطيط
مستقبلي.
فالتفكير الاستراتيجي ليس هو ما يطرح من حوارات
تعاد دوما وتلاحظها اليوم في مجموعات العالم الافتراضي والواتس؛ تغيب سنين لتعود
وتجد نفس الأسئلة ونفس الأجوبة وكل يغرد على ليلاه ويرفض أن يرتقي بالتفكير إلى
الصواب، وإنما يأخذ بفكرة الجهل المتغلب.
الأحزاب
في عالم التفاهة:
اليوم وكما اعتاد
الإعلام توصيف الأحزاب بأنها دكاكين، فهي محض مكاتب متقدمة لمصالح مبهمة لا علاقة
لها بالدولة وبناء الدولة وإنما تفكر بالسلطة وتقاسمها لا الرؤية وكيف تنفذها، فهي
تجمعات مصالح أفراد يضاف لبعضها صبغة أيديولوجية، وغالبا ما تكون محض صبغة وليس
سمة تنعكس على السلوك، فهي تنقل اسما بلا قيم، ويتساوى بهذا العلمانيون (كما يسمون أنفسهم) والإسلاميون (كما يسمون أنفسهم). وهذا ليس في بلد هو من مخرجات الاحتلال
كالعراق فقط بل في كل الدول التي تتمسح بالشرعية الديمقراطية، هذه الأحزاب عندها
مراكز دراسات، ولكنها شكلية ليست مؤثثة بالمنظومات العقلية وإنما بمجموعة مداهنة
لا تحل مشكلة تمتدح بعضها وتخرج بنتيجة واحدة: إننا على صواب وقيادتنا فذة ونظيفة
وأن الشعب غير مؤهل وهو شعب فاسد، هذا في الغالب من أجل تبرير اغتصاب الحقوق وأهمها
الأهلية التي تغتصبها الحكومات التي يحكمها طاغية أو دكتاتور، فهي سطحية لا تنتج
بل تؤخر لأنها ستعتبر الشعب أو شرائح منه هي العدو وبالتالي لا تبني الأمة ولا تبني الدولة.
الأحزاب الحقيقية
لديها رؤية وبرنامج يرتكز على التفكير الاستراتيجي والتخطيط المحكم ولديه فكر وأيديولوجيا،
ومركز دراسات وتقويم وتأهيل، هذه الأحزاب تبني أناسا يسعون لقيم أخلاقية وخدمة عامة،
وفقدان هذا التنظير الذي يُستهزئ به يجعل الأمة في تراجع وفساد وضحالة بسبب المتصدين
للعمل السياسي، ويتحول المسؤول من أجير إلى باحث عن التربح ويتحول القانون لحماية
المكاسب وجعلها في تشريعات.
المكاسب تجذب
الانتهازيين والمستغلين وتبعد فرص الصادقين، ففي الغالب الطبقة المثقفة والعلماء
وأصحاب الفكر أقل الناس قدرة على المماحكة والدفاع عن أنفسهم أمام الأساليب
السوقية.
وسنتحدث بالجزء
الثاني عن المراجعات.