بدا لافتا في الآونة الأخيرة ارتفاع وتيرة الدفاع عن
التصوف وبعض
مقولاته المثيرة للجدل كالتوسل والاستغاثة من قبل أتباع الطرق الصوفية والمذهبية
(العقائدية والفقهية) في مواجهة مقولات السلفية الوهابية التي أدمنت مهاجمة
الصوفية والتحذير من بدعها وضلالاتها، حسب رؤيتهم عبر العقود الماضية.
وفي سياق ذلك يحتدم الجدل حول مشروعية الاستغاثة بالأموات والتوسل
بهم، إذ يذهب من يدافع عن مشروعيتها إلى أن الاستغاثة بالأموات هي كالاستغاثة بهم
في حياتهم من غير اعتقاد قدرتهم على الفعل استقلالا، فهم لا يملكون ضرا ولا نفعا،
فالله هو النافع والضار، وهي بمعنى التوسل، في الوقت الذي تشتد فيه السلفية
الوهابية في استنكار ذلك وعده شركا أكبر.
ووفقا لمراقبين فإن ذلك اللون من الجدل العقائدي مفتوح ولا نهاية له،
فالطرفان يسيران في خطين مستقيمين، لا التقاء بينهما، بل طبيعة العلاقة بينهما
الخصومة والعداوة، فكل طرف يتربص بالآخر، ويسعى لإسكاته وكبته وإقصائه، إن تمكن من
ذلك، وحانت له فرصة الانقضاض للتخلص منه كخصم عقائدي عنيد.
وتعليقا على ذلك الجدل المحتدم بين السلفية والصوفية حول التصوف وبعض
المسائل الأخرى، رأى الباحث الجزائري في الفكر الإسلامي، صهيب بوزيدي أن
"طبيعة السجالات بين الصوفية والسلفية في باب الاستغاثة والتوسل تنقسم إلى
قسمين، أولهما ما يخوض فيه العلماء المتخصصون بأسلوب علمي أكاديمي تُوظف فيه علوم
الآلة، وتُصنف فيه الاستدلالات وفق مصادرها المعرفية الصحيحة، فهذا يكون نافعا
ولكنه نادر".
صهيب بوزيدي، باحث جزائري في الفكر الإسلامي
وأضاف: "أما التراشق الذي يقع بين غير المتخصصين من أصحاب
المدرستين فهو لا يزيد الوضع إلا سوءا، فكل من لم يحدد تعريفا جامعا مانعا
للمصطلحات المستعملة في هذا الباب كالعبادة والتوسل والبدعة والتوقيف لن يقدر على
تصنيف المواضيع ضمن إطارها الشرعي والعلمي، والنتيجة ستكون انتشار التكفير
والتبديع من جهة غلاة السلفيين والنصب والاحتيال والخزعبلات والخرافات من جهة غلاة
الصوفية".
وتابع: "فالواجب إفساح المجال للمعتدلين من الطرفين حتى يدلي كل
بدلوه بطريقة تجمع ولا تفرق، وتحل المشاكل ولا تزيدها غرقا، في هذه الحالة تستفيد
الأمة من هذه النقاشات تحت مظلة جامعة ألا وهي الإسلام الواسع بعيدا عن التحزب
والطائفية".
وردا على سؤال لـ
"عربي21" حول اشتداد
موجة الدفاع عن
التصوف مؤخرا، أرجع بوزيدي ذلك إلى كون "الموجة السلفية اكتسحت العالم
الإسلامي حتى صار الناس لا يجدون إلا فتاويهم أمامهم سواء بحثوا عن الفتوى في غوغل
أو اليوتيوب أو في القنوات التلفزيونية، وهذا قد ينذر بانقراض التصوف أو جموده إلى
الأبد، وغالبية المدافعين عن التصوف اليوم هم من الشباب الذين كانوا بالأمس القريب
سلفيين، فأخذوا من السلفية النشاط الدعوي والجرأة في تبليغ المذهب فطبقوه لصالح
التصوف"، على حد قوله.
وعن أنجع الوسائل في إدارة تلك الخلافات، أشار إلى أنها "تكون
بالحوار بين العلماء من الطرفين، وليكن الحوار بينهم في جلسات خاصة ليفهم كل منهم
الآخر، فعندها سيعلم السلفي أن الصوفية لا يطلقون جواز الاستغاثة بغير الله هكذا،
بلا أي قيد وإنما هم يقولون بوجوب اعتقاد أن الله هو المسبب الأول، ولا يمكن لأحد
أن يستقل بأي فعل عن الله، وأن الله الذي وضع أسباب النفع في الأحياء هو القادر
على وضعها في الأموات".
وأردف: "وأن الميت في الدنيا حي في البرزخ (في العالم الموازي)
وأنه لا يجوز عبادته مقابل الاستغاثة به، وإنما يكون الأمر أشبه بمن يطلب الدعاء
من رجل حي فيطلبه من ميت، والله قادر على أن يبلغه ويسمعه كلامه، وأن ذلك الميت لا
يُعبد ولا هو شريك لله في أي صفة من صفاته فلا يقال (علمه مساوٍ لعلم الله أو
مستقل عنه، ولا يقال قدرته مساوية لقدرة الله أو أنها مستقلة عنه)".
وأكمل: "وكذلك يعلم الصوفيون أن السلفيين ليسوا جميعا غلاة في
التكفير فحتى من يعتقد أن هذه المسائل شركية فإنه لا يكفر الناس بأعيانهم وخير
مثال على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في القدامى، والألباني وتلاميذه في المعاصرين،
وأن السلفيين رأوا من أفعال بعض المنتسبين للتصوف ما يشوه صورته، ويخرج عن
التقييدات التي وضعها علماء الصوفية".
ونبه بوزيدي إلى أن "فهم هذا لا يعني الاتفاق على المسائل
المختلف عليها بالضرورة، ولكن لا أقل من تقريب الصورة وتضييق دائرة الخلاف، فلا
يقال إن الصوفية لم يفهموا لا إله إلا الله فهذه تهمة خطيرة، فالصوفي يعلم أن
عبادة غير الله شرك، ويعلم أن الشرك بالله كفر، وإنما خلافه مع السلفي في تلك
المسائل التي ينكرها عليه أهي داخلة في العبادة لتكون شركا أم لا؟ فلا بد من تحرير
مفهوم العبادة والتفريق بين الدعاء بمعناه اللغوي (النداء)، والدعاء الذي يكون
مصحوبا بالخضوع والحب والخوف التام المطلق وهو دعاء العبادة".
من جهته أبدى الباحث والأكاديمي الأزهري، الدكتور أحمد الدمنهوري
تحفظه على من يوحي بأن الصوفية هم الذين اختصوا بإثارة مسائل الاستغاثة والتوسل،
مؤكدا أنها "لم تكن محل خلاف بين كافة علماء الأمة حتى أحدث ابن تيمية الخلاف
في الاستغاثة، وهو أول من فرَّق بين التوسل والاستغاثة، ثم أحيا مذهبه فيها أتباع
محمد بن عبد الوهاب، الذي تقدم بهذه المسائل خطوة ناحية التطرف فجعلها من مسائل
الاعتقاد لا الفقه، مما حدا بعلماء الإسلام في عصره، ومنهم أخوه سليمان وكان
حنبليا مثله للرد عليه".
أحمد الدمنهوري، باحث وأكاديمي أزهري
وتابع: "والمعنى هنا أن الخلاف في هذه المسائل هو العارض،
والصوفية يدافعون عن الإسلام المستقر قبل إحداث الخلاف، والذي رأيته بنفسي من
مشايخنا الأزهريين أنهم لا يميلون لإثارة المسائل الخلافية، بل يعلِّمُون الناس
ولا يدخلون في جدال ولا نقاش.. حتى ظهرت نابتة من طلاب العلم، هم الذي يُطلق عليهم
اصطلاحا في عصرنا اسم (السلفية)، فأثاروا هذه المسائل لدى العوام وصارت محل ولاء
وبراء، حتى اجترأ العوم على العلماء."، وفق قوله.
وواصل الدمنهوري حديثه لـ
"عربي21" بالقول "الدفاع عن
التصوف جاء كرد فعل على الهجوم السلفي الوهابي بأثوابه الفسيفسائية المتكثرة مع
الأيام، فهم رغم اختلافهم لكنهم اجتمعوا على أمور منها: مناطحة العلماء المجتهدين
وإساءة الظن بالمسلمين كما سبق بيانه، ومنها الاتفاق على القول بخرافية التصوف".
وأوضح أن "ما يقوم به المتصوفة هو دفاع عن الحق والعلم في
مقابلة جهل تفشى في الأمة باسم نشر (السنة)، ونشر عقيدة (السلف)، وهو في الحقيقة
نشر للبدعة وعقيدة المبتدعة؛ الصوفية الرادون على السلفية في الحقيقة يتصدقون على
الوهابية بتعليمهم من خلال هذه السجالات، وقد تعلم الكثير منهم ورجع عما كان فيه،
ولو سكت المتصوفة كما كان الشأن قبل ذلك؛ لانتشر الجهل بين الناس، وعادى الناس
الأولياء ولترتب على ذلك مفاسد كثيرة.. ".
وعن أنجع الوسائل في إدارة تلك الخلافات لفت الدمنهوري إلى أن
"تكون هذه الخلافات الواقعة لا محالة وفق قانون العلم، وأن تكون طلبا للحق
وليس انتصارا للنفس، وقبل ذلك كله أن يتلقى المسلم أصول العلم على يد أهل الإسناد
الحقيقي وليس أدعياء العلم، وألا يتصدر في خلاف قبل درس المسألة من كل وجه، فإن
تعلم أصول العلم وقواعده هو الذي يعطي الملكة العلمية، ويوفر الجهد والطاقة، ومن
هنا قال حجة الإسلام الغزالي (لو سكت من لا يدري لقلّ الخلاف بين الخلق).".
بدوره أوضح الباحث الشرعي، المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، الدكتور
نضال ثلجي أن "السجالات بين الصوفية والسلفية ليست جديدة، فقد ظهرت منذ أن
نشأ مصطلح الصوفية في زمن أتباع التابعين في البصرة، ثم استمرت هذه النقاشات عبر
الأزمان، وبلغت ذروتها في زمن ابن تيمية وتلامذته، ثم خبت حدة هذه السجالات في زمن
الخلافة العثمانية، ثم عادت وظهرت بقوة بعد ظهور دعوات الإصلاح في العالم
الإسلامي، ثم ما آلت إليه من تحولات في العصر الحاضر".
وتابع: "وإذا ما أردنا تسليط الضوء الكاشف على المرحلة الأخيرة
من موجات النقاش بين المدرستين، فلا شك أن المرحلة الأخيرة تختلف عن سابقاتها
جميعا من أكثر من وجه: فمنها أن الناظر في الأزمنة السابقة يجد أن علماء الأمة
الكبار كانوا هم المرجع في بيان حال الصوفية والمتصوفة، فلا يتكلم فيهم كل من هب
ودب كما نرى ونشاهد في وسائل التواصل الاجتماعي، فالعلماء هم أقدر الناس على بيان
أخطاء المتصوفة، والحكم عليهم بما يناسب حالهم".
نضال ثلجي، باحث شرعي متخصص في الحديث النبوي وعلومه
وذكر ثلجي في حديثه لـ
“عربي21" بعض ما أجاب به الأئمة السابقون
حينما سئلوا عن الصوفية، كما سأل الإمام مالك رجل من أهل نصيبين: فقال "عندنا
قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيرا ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون، فقال
مالك: أصبيان هم؟، فقال: لا. قال: أمجانين هم؟ قال: لا هم مشايخ وعقلاء. قال: ما
سمعت أن أحدا من أهل الإسلام يفعل هذا".
وواصل: "كما أن الغاية من بيان أخطاء المتصوفة هي الذب عن
الشريعة والحفاظ عليها، وإصلاح التصوف والعودة به إلى منابعه الأولى بينما نجد أن
الغالب على المعاصرين غايتهم الطعن في التصوف والمتصوفة مطلقا، وقد بين ذلك ابن
الجوزي فقال "والله يعلم أننا لم نقصد ببيان غلط الغالط إلا تنزيه الشريعة
والغيرة عليها من الدخل، وما علينا من القائل والفاعل، وإنما نؤدي بذلك أمانة
العلم، وما زال العلماء يبين كل واحد منهم غلط صاحبه قصدا لبيان الحق، لا لإظهار
عيب الغالط..".
ولفت ثلجي إلى أن "العلماء لا يحكمون على جميع المتصوفة حكما
واحدا، وإنما ينظرون إلى مدى موافقتهم أو مخالفتهم للكتاب والسنة، ثم يحكمون عليهم
بناء على هذا الميزان، لهذا وجدنا بعضهم عندما نقد أحد المتصوفة واصفا له بقلة
العلم، تعقبه الإمام أحمد بن حنبل بالإمساك عن ذلك لحصولهم على ثمرة العلم وهو
الخشية، فقد ورد في (طبقات الحنابلة) "وذكر في مجلس أحمد بن حنبل معروف
الكرخي، فقال بعض من حضره: هو قصير العلم. قال أحمد: أمسك، عافاك الله، وهل يراد
من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟".
ونبه في ختام حديثه إلى أهمية أن "تتم النقاشات بين العلماء
بعيدا عن الاستعانة بالدول لتغليب أو فرض رأي على آخر، وقد ثبت فشل الاستعانة
بسلطة الدولة في ترسيخ رأي على آخر، كما في محنة الإمام أحمد مع المعتزلة، وكما
فعل بعض الأشاعرة مع ابن تيمية في مسألة الاستغاثة، وقد ذكر تفصيل ذلك في كتابه
(الرد على البكري)".