يُقال إنّ المُنتِج (سكُتّ ستايندُرف Scott Steindorff) ظلّ ثلاث سنواتٍ يحاول إقناع ماركيز ببيعه حقوق الرواية لتحويلِها إلى فِلم، وكان يقول لماركيز إنه فلورنتينو في مثابرتِه، ولن يستسلم دُون الحصول على الحقوق! يَشي هذا ببصيرة سينمائية نافذة لدى (ستايندُرف)، فقد استطاع أن يرى خلال أوراق الرواية مشروعًا سينمائيًّا خليقًا بالتنفيذ. ظهر الفِلم سنة 2007، حيث كتب السيناريو (رونالد هاروود) وأخرجه (مايك نيُوِل)، وألّف موسيقاه أنتونيو بنتو وشاكيرا.
ما فعلَ السيناريو بالرواية:
ربما يكون من المُفيد أن يعرِّج القارئ العزيز على مقالٍ قديمٍ كنتُ قد كتبتُه عن الرواية ونُشر منذ عامَين، قبل أن يفرغ لقراءة هذه المراجعة للفِلم.
روايةٌ لزمنِ الوَباء: الحُبُّ في زمنِ الكوليرا
في محاولةٍ من (هاروود) للتركيز على الموضوع الأساسيّ للحبكة وهو تطوُّر علاقة فلورنتينو أريثا بفرمينا داثا، أسقَطَ كثيرًا من التفاصيل والأحداث الجانبية التي تغصّ بها الرواية. وهو أمرٌ يبدو لي ضروريًّا لتَخلُص الرواية الطويلة إلى فِلم يتجاوز الساعتَين بقليلٍ من الدقائق، وإن كان في هذا الإسقاط تضحيةٌ بثراء الرواية الاستثنائيّة في إحالاتِها وتشابُكاتِ أحداثِها وكثافة وعُمق ما تطرحه من أسئلةٍ فلسفيّة.
فابتداءً، تغاضى (هاروود) عن حكاية اللاجئ الأنتيلي التي تفتتح بها الرواية، وهو لاجئٌ يعمل مصوِّرًا ضوئيًّا للأطفال، تبدأ الرواية بالدكتور (أُربينو) في غرفتِه يتحقق من موتِه، إذ كان هذا اللاجئ صديقًا لأربينو يلاعبه الشطرنج يوميًّا، ويكتشف أربينو أنّ صديقَه انتحر، كما يكتشف أنه كان على علاقةٍ بامرأةٍ ما، لم يكن أحدٌ يعرف عنها شيئًا، فيَقرّ في صدر أربينو أنّ صديقَه المنتحِر قد خدعَ الجميع بذلك. وبينما قد يُخيَّل إلينا أثناء القراءة أنّ هذه الحكاية الجانبيّة لا علاقةَ لها بمثلث الحُبّ بين فرمينا وأربينو وفلورنتينو، نكتشف مع مُضِيِّ الوقت أنّ ماركيز يهيئنا من خلالها بشكلٍ ما لطَرح فكرة تقبُّل الأسرار التي تنطوي عليها حياةُ الآخَرين والتسامُح معها. فما نعرفُه من حياةِ فلورنتينو مثَلًا – لاسيّما في تعدد علاقاتِه الغراميّة – يظلّ مَخفيًّا عن (فرمينا)، وما تعتقدُه فرمينا قُربَ نهاية الرواية بشأن خيانة زوجِها لها مع صديقتِها نعرفُ أنه مجرّد وهمٍ زائفٍ كرّسَته الإشاعات.
كذلك تغاضى (هاروود) عن حكاية (ليونا كاسياني) التي أغاثَها (فلورنتينو) من الشارع وهو يظنُّها عاهرةً، ثمّ اكتشف أنها تريدُ وظيفةً فألحقَها بشركة عمِّه (ليو) لتترقّى سريعًا بفضل إخلاصِها للعمل. حذفَ (هاروود) ليونا من الفِلم كما حذفَ اللاجئ الأنتيليّ، رغم أنّ ليونا في الرواية تمثّل الجانب العذريّ من (فلورنتينو)، فهو لا يقربُها جسديًّا رغم صداقتِهما المتينة، كما لا يُسِرُّ إليها بحُبِّه لفرمينا رغم إقدامه على ذلك مرّاتٍ، كأنها تمثّل الموقفَ الحقيقيَّ لجسدِه أمام نساء العالَم، فبينما يَحنِثُ في نَذر العِفَّة الذي نذرَه في صِباه، بقي هذا النذرُ قائمًا مع (ليونا) فحَسبُ، ولعلّه من الكاشفِ جدًّا لهذا الدور لليونا أن نقرأ قولَها له، إنه ربما يفعل أشياء كثيرةً جدًّا لكي يهرب من التفكير. هكذا تلخّص هي بضربةٍ واحدةٍ تهافُتَ غرامياته المتعددة وانحلالَها إلى لا شيء.
وثَمّ شيءٌ آخَر مهمٌّ أغفلَه (هاروود) هو بطولةُ الدكتور (أربينو)، فأربينو في الرواية ليس مجرّدَ غريمٍ لفلورنتينو يحظى بالزواج من حبيبتِه، وإنما هو بطلٌ في ذاتِه، يهَبُ حياتَه للمدينة بطريقةٍ شبه كاملة. ولعلّ قولَه لفرمينا الذي أبقَى عليه (هاروود): "إنّ الشيء الأهمّ في السعادة الزوجية هو الاستقرار"، هذا القول الذي يلخّص فلسفةً عميقةً في خوض الحياة كان يستدعي إظهارَ جوانبَ أكثرَ من حياتِه في الفِلم.
تصرُّفات المُخرج:
في المشهد الذي يعرض فيه فلورنتينو خطاباتِه على فرمينا لأول مَرّةٍ في قُدّاس عيد الميلاد، يحرص (نيوِل) على إبراز تكرار الكاهن لتعبير (جسد المسيح) Corpus Christi أثناء قيامِه بطقس التناوُل، فالمؤمنون يتناولون جسد المسيح وقد حَلَّ في الخبز في فعلٍ قائمٍ على الحُبّ الذي لا يفرّق بين الرُّوح والجسد، وهو بذلك يُشير من زاويةٍ ذكيّةٍ إلى الموضوع الذي تناقشه الحكاية، فالبطلة (فرمينا) بعد وفاة زوجِها بعد زيجةٍ استمرّت أكثر من خمسين عامًا تقرر أنها لا تعرف إن كانت قد عرفَت الحُبّ في زواجِها أم لا، و(فلورنتينو) على صعيدٍ آخَر يُغرق جسدَه في علاقاتِه المتعددة بشكلٍ مذهلٍ، لكنه يحتفظ برُوحِه عذراءَ ليكون صادقًا بشكلٍ ما حين يصرّح لفرمينا أنه ظلّ على عذريته من أجلها طيلة هذه السنوات الخمسين. هكذا يثور السؤالُ من قلب مشهد طقس التناوُل، لتتردّد أصداؤُه في مشاهِد العلاقة الحميمة طيلةَ الفِلم: أيمكن أن يَحضُر الجسَدُ أو يحيا وتغيبَ الرُّوح؟ هي يمكنُ أن تظلَّ الروحُ عذراءَ زاهدةً والجسدُ غارقٌ في اللذّة؟ أم أنّه لا وجود للرُّوح إلّا خلالَ الجسَد كما يخبرُنا الوجوديُّون؟ تظلّ هذه الأسئلة مستعصيةً على كُلّ ما نتخيّلُ أنّ الرواية والفِلم يطرحانه من إجاباتٍ محتمَلة.
وممّا يُحسَب للمُخرج ومُدير التصوير والسينماتوغرافيا أنّ لقطات الفِلم استطاعت أن تقدّم مُعادلًا موضوعيًّا للجَمال المحض، لكنّ هذا أتى على حساب بعض مشاهد الرواية التي تجسّد معاناة الفقراء مع الكوليرا، لاسيّما ذلك المشهد الذي تطير فيه فرمينا داثا مع زوجِها في رحلة المُنطاد فوق قريةٍ تغصّ أرضُها بضحايا الكوليرا. ولعلّ المُخرج ارتأى أنّ مشهدًا كهذا ربما يمثّل عقَبَةً لا مبرر لها في سياق حكاية الحُبّ الذي ينتصر على الزمن.
موسيقى الفِيلم:
جاءت الأغنيتان الأساسيتان للفلم La Despedida و Hay Amores في سلّم صغير، أقرب إلى التأمُّل الذي لا يخلو من حُزن، ولعلّ صوت شاكيرا القوي المفعَم بالقدرات التعبيرية جسّد بالفعل مفارقات قصّة الحُبّ المعقّدة، وبَصمَتُها التي تتجلّى في تأثير القفز من المساحة الصوتية الطبيعية/ الصدرية Chest Register إلى المساحة المُستعارة/ المدى الصوتي الرأسي Head Register/ Falsetto، وهو ما يُعرَف باليودل Yodelling، هذه البصمة تُضفي شعورًا بالرثاء لحال ضحيّة الحُبّ المُحبَط فلورنتينو.
أمّا التآلُفات التي يلعبها الغيتار في مشاهد العزاء في مقدمة الفِلم على السلم الصغير فتبدو منذرةً أكثر مما هي حزينة، فهي تهيئنا بطريقةٍ ما لتوقُّع أمرٍ مُثيرٍ سيحدثُ في حياةِ تلك الأرملة فرمينا، وهو ما يحدثُ بالفعل مع تقدُّم فلورنتينو إليها مجدِّدًا عرضَه بالحُبّ الأبديّ.
أداء الممثلين:
تميزَت تعابير وجه (خافيير باردِم) في دور (فلورنتينو) بأنها بالِغة النضج والقوّة، تشفّ الفرح كما تشفّ الحزن. بينما يفصح وجه بنجامين برات فقط عن الاتّزان وامتلاك النفس، وهو ما يتجاوب وشخصيتَه في الرواية، وفي رأيي أنه كان يمكن الاستفادة من هذه النقطة بشكلٍ أكثفَ لو حافظ (هاروود) على شطرٍ أكبر من حياةِ شخصية الدكتور أربينو. أما (جوفانّا مِتسوجُرنو) التي قامت بدور (فرمينا) فقد نجحَت تمامًا في تجسيد التقلُّبات العاطفيّة التي تعتمل في نفس تلك المرأة القوية تحت سطح مظهرِها الصُّلب. وأخيرًا فقد جاء أداء (هكتُر إليزوندو) في دور (دون ليو) صاحب شركة الملاحة النهرية ليجسّد تلك السخرية الرصينة التي نلمحُها في هذه الشخصيّة الروائيّة الغنيّة، لاسيّما في مشهد قراءته خطابات العمل التي يصوغها فلورنتينو في صورة خطاباتٍ غراميّة.