عاش محمود
بيرم التونسي الذي اشتهر خصوصاً بأزجاله، وارتباطه
بسيد درويش وأم كلثوم والقصبجي وغيرهم من الفنانين، ثمانية عشر عاماً في المنفى بين
تونس وفرنسا والشام.
نُفي بيرم إلى تونس بسبب مواقفه من الاستعمار البريطاني في
عام 1919، لكنه لم يبق فيها إلا ثمانية أشهر، ليغادرها إلى فرنسا منفياً عشر سنوات.
ولما عاد إلى تونس انتمى (بين 1932 وعام 1938)، إلى مجموعة "تحت السور" التي
كانت غزيرة الإنتاج الصحفي والأدبي، ترأس خلالها تحرير جريدتي "السرور" و"الزمان"
وأسّس جريدة "الشباب". لقد كان حمادي بدرة رجل السياسة التونسي والسفير بمصر
بعد ذلك، وراء قدوم بيرم في الثلاثينيات إلى تونس، بعدما قابله في باريس سنة 1932،
كتب محمد (حمادي) بدرة مرحبا بقدومه، على صفحات جريدة "الزمان"، في 22 كانون
الثاني/ يناير 1932 منوهًا بمواهبه، وسرعان ما التحم بيرم التونسي بالحركة الوطنية.
بعد ستين عاماً على رحيله، ما زال الشاعر محمود بيرم التونسي
(1893_1961) في تونس، يثير الجدل، ويوفر مادة تبوح كل مرة بالجديد.
أحدث الكتب التي صدرت في تونس عن بيرم التونسي، كتاب يحمل
عنوان "أحرار في بلادنا"، نشره المركز الوطني للاتّصال الثقافي بعنوان
فرعي: "من التراث البيرمي في تونس في ثلاثينيات القرن العشرين".
إضاءات لمجهول
الكتاب مجموعة قصصية حقّقها وقدّمها الحسناوي الزارعي، ركز
فيها على الجانب التونسي من حياة بيرم التونسي، خاصة في ثلاثينيات القرن العشرين، بين
1932 و1937، مع التأكيد على
القصة القصيرة، والمقامة، والمواقف المسرحية، والخواطر،
والبورتريه الأدبي، فضلا عن الأشعار والأزجال.
هذه الدراسة، تضيء جانباً مجهولاً من سيرة بيرم التونسي،
يتعلق بإرثه القصصي. علما بأن فترة إقامة بيرم في تونس في بداية الثلاثينيات، والتي
"تزامنت مع ظهور أول حركة قصصية تونسية واضحة المعالم، تدعّمت أيّما تدعيم بقدومه".
وكان الباحث بالتراث الإبداعي البيرمي الحسناوي الزارعي، أصدر قبل ذلك، (ضمن اهتمامه
بالتراث البيرمي)، كتابين، أحدهما "محمود بيرم التونسي في تونس، مدخل إلى حياته
وآثاره"، والثاني يتعلق بشعره: "محمود بيرم التونسي.. الأشعار التونسية"،
ضمن سلسلة "ذاكرة وإبداع".
بيرم التونسي واحد من أعلام كتابة القصة منذ عشرينيات القرن
الماضي في مصر، لم يقع الاهتمام بتجربته القصصية التي تراكمت وتطورت في تونس. حصر الزارعي
إنتاج بيرم القصصي في تونس، فحدّده بـ 32 قصة، توزّع نشرها بين ثلاث صحف هي "الزمان"
و"السردوك" و"الشباب". كانت أول قصّة منشورة له بعنوان "رسالة
الغفران" وهي محاكاة لـ "رسالة الغفران" التي كتبها المعري، وقد نُشرت
في سنة 1933، بجريدة "الزمان".
تزامنت فترة إقامة بيرم التونسي في تونس في فترة الثلاثينيات
بظهور أول حركة قصصية تونسية واضحة المعالم وهي جماعة "تحت السور" بباب سويقة،
حيث تنادى مجموعة من الأدباء والفنانين جمعت بينهم البوهمية والعصامية وحب الأدب والفن
(في الفترة الممتدة بين 1929 و1943)، فترة التأسيس والإشعاع والإنتاج الوفير، من بينهم
خمسة أدباء من رواد القصة التونسية، نشطوا سواء في إطار جماعة "تحت السور"،
أو ضمن جماعة "العالم الأدبي" التي دعت إلى إسلام تحرري تقدمي، كما طالبت
بضرورة ارتباط الأدب بالعصر، "والتأسيس لأدب تونسي، وطني محض، يستلهم من تاريخنا
وبيئتنا الاجتماعية والثقافية، ويعبّر عنها بالفصحى أو العامية، مع ضرورة معرفة الأديب
بالتراث العربي القديم، إلى جانب الإلمام بالحد الأدنى من الآداب الأجنبية".
علي الدوعاجي، ومحمد العريبي، وعبد الرزاق كرباكة، ومصطفى
خريف، وبيرم التونسي نشطوا ضمن "تحت السور" وبعضهم ضمن "العالم الأدبي"
أيضا. كما نشط آخرون ضمن هذه المجلة التي أسسها زين العابدين السنوسي مثل أبو القاسم
الشابي، والطاهر الحداد، ومحمد البشروش، والتيجاني بن سالم، ومحمد العريبي، ومصطفى
خريف، وعلي الدوعاجي. وهؤلاء نشطوا أيضا ضمن جماعة "تحت السور".
بيرم المدفعية الثقيلة
لم يكن قدوم بيرم التونسي عاديا فقد كان حضوره مشعا وربط
علاقات متينة مع رموز الأدب في تونس.
قال مصطفى خريف عن بيرم: "لقد انضم إلى جماعتنا، وكان
أبو القاسم الشّابي ذو شغف ببيرم التونسي وعلي الدوعاجي، لكن مرضه وانكبابه على مشاغله
العائلية، لم تسمح له بمداومة الاتصال بنا، فكان يقضي بعض الوقت معنا في التفسح في
الضواحي والأجنّة. وأذكر ليالي كثيرة قضيناها في البلفدير مع بيرم، والشابي، والدرعي،
والطاهر الحداد". أما الهادي العبيدي أحد فرسان "تحت السور" فقد أشار
إلى الظرف الذي قدم فيه بيرم التونسي إلى تونس، ظرف تميز بحركية على المستوى السياسي،
والاجتماعي، والسياسي، وكانت الشبيبة الجديدة تتصارع في كل هذه الميادين مع الرجعية
والاستعمار، وكنا نشن الحرب على الصف المقابل بحماس، وشدة، وقد استطعنا أن نهدم كثيرا
من قلاعه، ونحتل كثيرا من قواعده. وجاء بيرم، فكان خير سند ونصير، كان يمثل المدفعية
الثقيلة، كانت له هجومات قاصفة، على زعماء الصف المقابل، عجلت بانهيارهم. عرفنا بيرم
صحفيا لا يشق له غبار، إلى جانب مقامه السامي في عالم الأدب بنوعيه، الفصيح والعامي
وخبرته الواسعة بنفسيات الطبقة الشعبية".
ماذا عن إرث بيرم القصصي؟
نشر بيرم التونسي كامل آثاره التونسية في أربع دوريات باستثناء
نصين نشرا بعد رحيله في نيسان/ أبريل 1937 الأول مقال والثاني موقف مسرحي والجرائد
الأربع هي "الزمان" و"الشباب" و"السرور" و"السردوك"،
أما إنتاجه القصصي فكان مداره ثلاث صحف هي "الزمان" و"السردوك"
و"الشباب".
تميّزت قصص بيرم بنضج فني وفكري، فقد كان بيرم يرى أنّ انهيار
القيم يعود إلى الطبقات الاجتماعية الثرية والمتنفّذة. وقد عكست هذه القصص "البيئات
الثلاث التي احتكّ بها في مصر وفرنسا وتونس خاصة، فصوّب من خلالها، في اتجاه مكامن
العيوب التي تشوبها أخلاقياً واجتماعياً كالأنانية المفرطة، والتخنث، والغدر، والخيانة،
والكبت الجنسي."
كما تميزت قصص بيرم بلغتها العربية السلسة، رغم تخلل بعض
العبارات العامية لأسباب فنية صرفة، ولإضفاء مزيد من الواقعية على الحوار مثلا، أو
تماهيا مع طبيعة بعض الشخصيات وأصولها الاجتماعية، وهو الذي يؤمن بالارتباط الوثيق
والعلاقة المتينة بين الفن والحياة بالاستناد إلى منهج واقعي نقدي هادف يلتزم بقضايا
الناس.
عمل بيرم على توظيف الأسلوب الهزلي، سواء في السرد، أو الوصف،
أو الحوار، أو رسم الشخصيات. أعاد بيرم نشر بعض هذه القصص خارج تونس، لأنه يعتاش
من النشر الذي هو مصدر رزقه الوحيد، مع أنه اشتغل ببعض المهن الهامشية، مثل بيع الحلويات.
ونفى المؤلف ما راج من مسلمات مفادها أن قصص بيرم يطغى عليها الأسلوب التقريري الجاف،
والسرد الواقعي المفصل، مؤكدا متانة قصصه من حيث البناء والصياغة، مضيفا بأنها تغري
بالقراءة، والتدثر بما تحتويه من إمتاع، وتصوير طريف للبيئات التي عايشها، وسعى للتعبير
عنها، بل اعتبر المؤلف، أن قصص بيرم التونسي من أنجح ما ظهر بتونس فنيا في الفترة المعنية
بالدرس، داعيا أهل الاختصاص لإبراز ما في التراث البيرمي من طرافة ورؤية متطورة والتزام
بقضايا الإنسان.