سكتت
الست غادة والي طويلا بعد اتهامها بالسرقة ١٢ شهرا، وأخيرا خرجت علينا لتنطق
بالجهل كله، وكأنها لم تكتف بكونها متهمة بالسرقة، فطمعت أن تضيف إلى تهمة السرقة
تهمة جديدة اسمها الجهل..
غادة
هانم بنت والي أفندي، خرجت علينا لتقول لنا؛ إنها عادت من إيطاليا -حتة واحدة- لأنها
أرادت أن تحيي
التراث المصري من خلال التصاميم
الفنية.. يا نور النبي!! سبحان من
يحيي العظام وهي رميم!! وكأن غادة أبو زيد الهلالي والي، أتت بما لم تستطعه الأوائل.
لو غادة كانت فعلا فنانة أو محبة للفن وخطفت رجليها إلى متحف الفن الحديث في الأوبرا
المصرية بعد كوبري قصر النيل، لعرفت أن مصر عبر تاريخها في الفن الحديث حظيت
بعشرات الأسماء من الفنانين رجالا ونساء، الذين اهتموا بإحياء التراث المصري في
الفن التشكيلي، وكنا ارتحنا من فنّها وخلصنا من الفضيحة ووجع الرأس.
فتاريخنا
الفني والأعمال الفنية (تصوير أو نحت أو جرافيك أو خزف)، تخبرنا بأن الطليعة الأولى
من الفنانين المصريين، ضمت أسماء فنانين فضّلوا التقليد بالمدرسة الكلاسيكية الأوروبية
في الفن، أمثال المصور والنحّات محمد حسن، وأحمد صبري، ويوسف كامل، وضمت أيضا أسماء
فنانين انشغلوا بموضوع التراث، وأفنوا أعمارهم في البحث عن هويتهم المصرية من خلال
التنقيب عن العناصر التراثية؛ سواء الفرعونية أو القبطية أو الإسلامية، بداية من محمود
مختار وراغب عياد ومحمد ناجي، مرورا بعفّت ناجي وتحية حليم وإنجي أفلاطون وعبد
الهادي الجزار وحامد ندّا، وانتهاء بأصغر فنان شاب موجود الآن.
لكن
على أي حال، أنا أجد في هذا المقال فرصة وأمدّ رجلي (زي أبو حنيفة)، وأعلم أن غادة
أبو زيد الهلالي والي وأمثالها من المدّعين المتجرّئين على الفن وتاريخه، (واخدهم قلمين
على صداغهم التخينة)، حتى يلزموا حدود الأدب وتنتفي عنهم صفة الجهل.
في البداية، يجب التفريق بين الفنون الجميلة التي تتخذ شكل
لوحات تصوير أو جرافيك أو أعمال نحتية جدارية وميدانية أو معمارية، وبين الفنون الشعبية التي تتخذ شكل الرسومات الشعبية على الجدران أو الوشم أو الزخرفة على الحُليّ أو النسيج الشعبي كما في مدينة أخميم على سبيل المثال.
وغني عن التذكير
يا غادة، أن مصر ضمت العديد من الحضارات عبر آلاف السنين، وكل حضارة شكّلت قيما
تشكيلية ومعمارية تفرد بها الفرعوني والإغريقي والقبطي والإسلامي، ولما كان أغلب
هذا التراث هو تراث رسمي فرضته المؤسسات الحاكمة وقتها سواء كانت مؤسسات سياسية أو
دينية، ولا يعبر بالضرورة عن وجدان وثقافة وشعور الشعب، لذلك ظهر التراث الشعبي،
والفارق بينهم أن تراث المؤسسات الحاكمة موثق ومعروف صانعه أو المؤسسة (حاكم/ دولة/
عصر) التي أمرت بإنشائه، بينما التراث الشعبي غير معروف لا صانعه ولا الفترة التي
ظهر فيها بشكل واضح -أحيانا-، ولم يكن هناك من أمَرَ بتصميمه أو رسمه أو تأليفه، كما
في الأغاني الشعبية على سبيل المثال.
فالفن الشعبي فن
اشتركت فيه عناصر فطرية، بمعنى عناصر لم تدرس الفن بشكل أكاديمي فهمي عناصر من
داخل الشعب المغلوب على أمره في كل العصور. الفن الشعبي فن أنتجته أياد كثيرة جمَعَتْها
مشاعر واحدة متشابهة، استطاعت في لحظة زمنية أن تخطف البهجة والفرحة من بين أنياب
سلطات حكمتها بالحديد والنار عبر كل عصورها، فكان الفن ملجأ لهذه الطبقات في
الهروب من كل ما هو مفروض؛ سواء قيميا أو فنييا أو حتى دينيا، ولذلك كان أمام
الفنان الشعبي براح واسع لأنه هرب من تحت يد الرقيب السياسي أو الديني أو الفني. فبينما
كانت أصول الفن تدرّس في المعابد وتموَّل من السلطات الحاكمة، وتخضع لقيم دينية
وتشكيلية ثابتة ثقيلة يخضع لها الفنان الصانع، كان الفنان الشعبي والذوق الشعبي
يتمتع بحرية لا نظير لها، ولا يبحث صانعها عن الممول أو المال أو الشهرة أو حتى المنصب،
فكان عمله حرا طازجا ملفتا للنظر.
كان
يجب أن نبدأ من هذه المقدمة حتى نضع الأمور في إطارها الفني الصحيح، حتى نستطيع أن
ننطلق إلى تعرية الأخت غادة والي، وكشْف كذبها الذي تمثل في ادعاء أنها جاءت إلينا
لتحيي تراثنا المصري، فعن أي تراث تتحدث؟ الفرعوني أم القبطي أم الإسلامي؟ عن
تراثنا الشعبي أم الرسمي؟ وإذا سلّمنا جدلا بأنها جاءت لتحيي تراثنا الفرعوني،
فماذا فعل العبقري محمود مختار (١٨٩١-١٩٣٤) من أكثر من مائة سنة عندما أنشأ رائعته
الخالدة تمثال "نهضة مصر"، الذي يمثل مصر سيدة بزي فرعوني توقظ أبا الهول،
وهو عمل نحتي من الجرانيت عرَضه مختار في صالون باريس عام 1920 وأُعجب به الزعيم
سعد زغلول فقرر إقامته في القاهرة، واكتتب الشعب كله في تمويل إقامته.
ورغم
أن مختار تأثر بالمدرسة الكلاسيكية في النحت، إلا أن تأثره بالفن الفرعوني كان
واضحا في هذا العمل الجبار في معالجته للسطح والملامح والزي. واختيار نموذج المرأة
في هذا العمل اختيار مقصود، في إشارة إلى ربط نهضة مصر بتحرير المرأة. ولعل الأخت
غادة بنت والي أفندي، لا تعرف أن هذا الجيل ضم إلى جانب مختار؛ المصور محمد ناجي (١٨٨٨–١٩٥٦)، والمبدع السكندري محمود سعيد، والفنان الكبير راغب عياد.
فقد
اهتم محمود سعيد (١٨٩٧-١٩٦٤) بالموضوعات الشعبية وتصويرها في لوحاته، فرسم الصيادين
والفلاحين وأبناء الطبقات الشعبية، كما رسم حلقات الدراويش وجسّد المعاني الإيمانية
كما في لوحته الصلاة، وجسّد تعبيرات الوجوه البسيطة كما في لوحة "عروس البحر"
و"ذات الجدائل" و"الفتاة بمنديل الرأس".. إلخ.
أما
الفنان الكبير راغب عياد (1892-1983)، فقد ترك كل ما درسه في أوروبا، وانطلق يبحث
في وجوه المصريين وطبيعة حياتهم وعاداتهم اليومية، فرسم العمل والحصاد والمقاهي
والحانات والموالد والأفراح والحقول والأسواق وألعاب التحطيب، كما اهتم بالمفردات
الشعبية، واستطاع هذا الفنان أن ينقل لنا مصر الشعبية بعد أن امتزج في حاضرها
وماضيها.
وبمناسبة
أن الأخت فريدة زمانها غادة أنثى -وهذه هي الحقيقة الوحيدة في سيرتها السودة-، فلا
يفوتني أن أذكّرها بجدّاتها الأوائل من الفنانات المصريات اللائي أبدعن في إحياء
التراث المصري. فتاريخ الفن التشكيلي المصري يزخر بأسماء هؤلاء المبدعات، منهن عفت
ناجي (١٩٠٢-١٩٩٤) التي استلهمت العناصر البدائية في البيئة المصرية في أعمالها،
والفنانة إنجي حسن أفلاطون (١٩٢٤-١٩٨٩). ورغم أن إنجي سليلة أسرة أرستقراطية، إلا أن
أعمالها ضمّت تصويرا للفلّاحات، وسجّلت في لوحاتها بأسلوبها ملابس وحياة الفلّاحة
المصرية.
كما
ضم هذا الجيل من الرائدات أيضا المبدعة تحية حليم (١٩١٩-٢٠٠٣). وتحية يا غادة هانم
تربّت في القصور الملكية؛ لأن والدها كان يشغل وظيفة كبير الياوران في القصر السلطاني
وقتها. ورغم أن والدتها من الطبقة التركية الأرستوقراطية في مصر، مما سمح لها أن
تتعلم الفن في الأكاديمية الفرنسية في باريس، إلا أنك يا أخت غادة سوف تشاهدين في
لوحتها حاملة المصباح، فلّاحة مصرية بزيّها وألونها الزاهية وتعبيرات وجهها
شديدة التعبيرية.
ولا
يجب أن أنسى جدتك الفنانة جاذبية سري (١٩٢٤-٢٠٢١)، ولسوف لا أنسى الفنانة مريم عبد
العليم (١٩٣٠-٢٠١٠)، وبعد أن ذكّرتك بجدّاتك العظيمات، سوف أُعلمك يا ست غادة، أن
عناصر التراث الشعبي وموضوعات الحياة اليومية للشعب كانت هدفا دائما للفنان المصري
المعاصر، بل إن الحضارات المختلفة التي مرت على مصر، كانت الملهم لأغلب الفنانين التشكيلين
المصريين، لذا فقد تكوّنت جماعات فنية استلهمت من البيئة والفلكور والتراث الفرعوني
القبطي الإسلامي الموضوعات المختلفة لأعمالهم المختفة.
ففي
عام ١٩٦٤ تكونت يا ست غادة يا بنت والي، جماعة اسمها "جماعة الفن المعاصر"، أسسها الفنان حسين يوسف أمين ومعه كوكبة من الفنانين المصرين، عبد الهادي الجزار
وحامد ندا وسمير رافع وماهر رائف وكمال يوسف وويليام مرقص.. اتخذت هذه الجماعة
المزج بين المخزون النفسي والرموز والثقافات الشعبية التي مرت على مصر من آلاف
السنين نهجا لها في العمل الفني، فعبّروا بتلقائية عن هذا المخزون الضارب في
التاريخ، ومزجوا بينه وبين السريالية، فكان إبداعا مصريا خالصا "مش ملطوش من
حد" يا غادة. ويكفي ما كتبة الناقد الفرنسي العالمي إيميه أزار عن مؤسس هذه الجماعة
حسين أمين، (أقريه يمكن يفيدك، يا غادة بدال ما تلطشي من فنان روسي وتجيبلنا
الفضيحة بلفتها على ايديكي)، حاولي أن تبحثي عن لوحة للفنان كمال أمين (١٩٢٣-١٩٨٠)
وتعلمي كيف يمكن تحليل العناصر الشعبية. وسوف أترك لك هنا رابطا لصفحته على فيسبوك. https://www.facebook.com/kamalaminawad/
يا
أستاذة غادة، شدّي حيلك وشاهدي أعمال الخزّاف المصري الرائد حسين الصدر، وأعمال تلاميذه،
الفنان الكبير نبيل درويش على سبيل المثال. وبالمناسبة الفنان نبيل درويش له متحف
في الهرم.
يا
أخت غادة، الله يصلح حالك ويتوب عليك من الجهل والسرقة مع بعض، لا بد أن تقرئي تاريخ
الفن في مصر لعلك تعلمين أن مصر تزخر بالعديد من الأسماء التي استهواها التراث
المصري عبر أجيال طويلة، منهم ممدوح عمار وحسين بيكار ومحمد راتب صديق عمر النجدي
ومصطفى أحمد وجورج بهجوري ومصطفى الرزاز. والنحّات المبدع أحمد عبد الوهاب وصبري
ناشد وفرغلي عبد الحفيظ ومحمد سالم، وأحمد سليم، أستاذ التصوير في كلية الفنون
الجميلة جامعة المنيا حاليا.
لن
أطيل عليك، فهذا غيض من فيض؛ لعلك تعلمين أن مصر فيها من الأسماء ما يعجز مقال
غلبان كمقالي هذا عن سرد أعمالهم، ولعلك تعلمين أيضا أن فكرة إحياء التراث ليست جديدة، ولا تأتي بالسرقة واللطش من أعمال الخواجات، كما أن العَبَط لا يُعفيك من الجهل.
كما
أن تعليقك خيبتك القوية على شماعة الإخوان، وأن الإخوان هم من وراء اتهامك بالسرقة زاد
الطينة بلة، فالإخوان لا يعرفونك ولا يعرفون شيئا عن الفن التشكيلي ولا يحبونه، (فبلاها) شماعة الإخوان حتى لا ينطبق عليكِ المثل التراثي المصري: "اللي ما تعرفش ترقص
تقول الأرض عوجة".