قضايا وآراء

وثيقة كامبل "تحط" على السودان!

هشام الحمامي
ارتبط السودان تاريخيا بمصر- جيتي
ارتبط السودان تاريخيا بمصر- جيتي
الحقيقة أنها "حطت" من قبل في 2005م حين فُصل جنوب السودان عن شماله "اتفاقية نيفاشا".. والتي وقع عليها السادة علي عثمان طه، وزير الخارجية وقتها عن السودان، واحمد أبو الغيط، وزير الخارجية وقتها عن مصر، وعمرو موسى أمين عام الجامعة العربية حينها، وكلهم أحياء يرزقون ويشاهدون ما نشاهده الآن في السودان.

وحضر أيضا مندوبون من باقي دول العالم على رأسها طبعا بريطانيا وأمريكا.. لكن "الحط" هذه المرة مختلف في أشياء كثيرة.. أهمها التوقيت، وأهمية التوقيت هنا في زمنه الجغرافي! إذا كان للجغرافيا زمن!

فالمنطقة العربية كلها الآن منهكة وحائرة ومخترقة ومضطربة أكثر من أي وقت مضى، ولم يكن ينقصها المزيد من كل ما سبق.. الدهشة هنا في أن كل ما حدث ويحدث وسيظل يحدث، إلى أن يقدر الله الملك الخلاق العليم لشعوب الأمة أن تفيق وتنتبه وتنهض، بمعزل عن نخبتها وقادتها ومثقفيها.. الذين لا زالوا يتحدثون بلسان مقطوع ونفوس مدجنة!!.. نعم.. فقد تلقت من أذاهم ومكرهم ما يكفيها وعيا بهم، وبالأخطار التي أحاطت بها من ناحيتهم.

المنطقة العربية كلها الآن منهكة وحائرة ومخترقة ومضطربة أكثر من أي وقت مضى، ولم يكن ينقصها المزيد من كل ما سبق.. الدهشة هنا في أن كل ما حدث ويحدث وسيظل يحدث، إلى أن يقدر الله الملك الخلاق العليم لشعوب الأمة أن تفيق وتنتبه وتنهض، بمعزل عن نخبتها وقادتها ومثقفيها.. الذين لا زالوا يتحدثون بلسان مقطوع ونفوس مدجنة!!
* * *

استنهاض الشعوب لتحمل مسؤوليتها لن يكون بسذاجة الساذجين في الثورات "الجاهزة" ولا لؤم الخبثاء في الانقلابات "التفصيل".. لكن وهو الأهم بالتعليم والمعرفة والتربية والتنظيم.. هو طريق طويل، لكنه موثوق.. ليس فقط لأن من سنن الله في الأرض أن نهضة أي أمة من جديد، لا بد أن تتم في نفس ظروف ميلادها الأول والبنية التأسيسية التي قامت عليها، كما قال لنا مالك بن نبي (ت: 1973م) وهو قول بحق.. بحق الوجود والتاريخ والاستراتيجيا والأفكار، لكن هذا ليس موضوعنا هنا.

* * *

كتبت كثيرا من قبل عن ما عرف بوثيقة "كامبل"، وسنكون دائما في حالة من الاحتياج الأحوج إلى تذكرها واستدعائها.. خاصة إذا رأينا فيها ما يكفينا ويكفيها فهما لاستدراك ما خفي علينا من تفاصيل خفية غابت عنها بضعف وعي منا، أو بفعل فاعل فينا.. ناهيك عن "مفهوم" التذكر في ثقافتنا الإسلامية، ذلك أن الذكرى نافعة.. ودورنا في الحياة هو أن نكون نافعين لأنفسنا والدنيا والناس.. وإلا فلا حياة لنا ولا للدنيا ولا للناس.. وقد قضى الله أن ما ينفع الناس يستمر في الأرض.. ويريد الله لنا أن نكون كذلك.. ذلك أنه سبحانه أراد لنا أن يكون الإنسان "خليفة" له في الأرض..

* * *

الحاصل أنه في عام 1905م دعا حزب المحافظين البريطاني الدول الاستعمارية الكبرى في العالم (بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا) إلى مؤتمر في لندن برعاية رئيس الوزراء البريطاني وقتها هنري كامبل بانرمان (ت: 1908م)، الذي قال في افتتاحية المؤتمر إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حد ما، ثم تنحل رويداً رويداً، ثم تزول، والتاريخ مليء بمثل هذه التطورات وهو لا يتغير.. هل لديكم وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي وانهياره أو تؤخر مصيره؟

* * *

الوثيقة احتوت على الكثير من الأخطار المرعبة التي تتصل بنا وبأمتنا وحضارتنا.. أهم ما فيها: أن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار! لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب، والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية، وملتقى طرق العالم، أيضا هو مهد الأديان والحضارات ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص؛ شعب واحد.

الوثيقة احتوت على الكثير من الأخطار المرعبة التي تتصل بنا وبأمتنا وحضارتنا.. أهم ما فيها: أن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار! لأنه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب، والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية، وملتقى طرق العالم، أيضا هو مهد الأديان والحضارات ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص؛ شعب واحد
خطورة هذا الشعب تأتي من عوامل عدة يملكها: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان، وهذه المنطقة تحتوي على منظومة قيمية منافسة للمنظومة الغربية، صارعتها في مناطق كثيرة وأخرجتها من مناطق كثيرة، ومن واجب الحضارة الغربية المسيحية أخذ كل احتياطاتها وإجراءاتها لمنع أي تقدم محتمل لهذه المنظومة الحضارية، أو إحدى دولها لأنها مهددة للنظام القيمي الغربي.

والتدابير والإجراءات التي تقترحها الوثيقة لذلك كثيرة؛ من أهمها: تكوين أو دعم الأقليات بها بحيث لا يستقيم النسيج الاجتماعي لها، ويظل مرهوناً بالمحيط الخارجي وعلى إيجاد "التفكك والتجزئة والانقسام" وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الأوروبية وخاضعة لسيطرتها..

وطبعا كانت التوصية الأهم: فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي وضرورة إقامة الدولة العازلة؛ عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية (إسرائيل).

* * *

جملة التفكك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة.. هي التي تتعلق بأحدث "تفكيك وتجزئة" تجري الآن في المنطقة العربية (السودان، البعد الأفريقي العميق لمصر والعالم العربي).. وعلى مرأى ومسمع من الشعوب والقادة العرب! والطريف أن هناك متخصصون في "شؤننا"، ومن "أبنائنا" من يقولون إنهم كَلَ سعيهم في البحث عن الوثيقة فلم يجدوها!! وبالتالي فليس من الموضوعية ولا المصداقية الحديث عنها!! ومن الخطورة استدعاؤها في الأحاديث عن الصراع مع الغرب!!

المصريون الطيبون يحكون "نكتة" عن تحذير الناس لأحدهم، بأن الكهربائي "فلان" يتحرش بابنته.. فكان رده عليهم: إنه لا يفهم في الكهرباء.. وليس كهربائيا أصلا.

ما في الوثيقة يحدث أمام أعيننا خطوة، وراء خطوة، وفي قعر دارنا.. وأنتم تتحدثون عن المصداقية والموضوعية..!! اذهب أولا أيها الرجل الشهم إلى الكهربائي، وامنعه من أذاك وضرك ثم تحدث عن فهمه للكهرباء!!

* * *

ولنقترب من الموضوع من أوسع زواياه.. آفي ديختر (71 سنة) وزير الأمن الصهيوني السابق وصاحب نظرية "القوة والمزيد من القوة".. قال في محاضرة ألقاها في أيلول/ سبتمبر 2008م في "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" عن الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة تجاه لبنان وسوريا والعراق وإيران ومصر والسودان؛ إن السودان يشكل عمقا استراتيجيا لمصر، وإنه بثرواته الكثيرة وموارده الطبيعية ومساحته الشاسعة وعدد سكانه، من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية، وكان لا بد أن تعمل إسرائيل وبجدية على إضعاف السودان، وخلق أزمات تعوق قدرته على بناء دولة قوية كبيرة وموحدة مهما كلف الأمر.. وذلك يعتبر من ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي.

* * *

طوال الوقت كان السودان بالنسبة لقادة مصر الكبار مسألة "استراتيجية عليا" لا تقبل النقاش.. وأكبر وأصدق زعيمين عرفهما التاريخ العربي الحديث، سعد زغلول (ت: 1927م) ومصطفي النحاس (ت: 1965م) كان عندهما الموت والدفن في سابع أرض، أهون من المشاركة أو السماح بفصل مصر عن السودان، إلى أن أتى "زعيم الزعماء" الذي لن يكتفي بفصل السودان عن مصر بحجة تقرير المصير، كما اشترطت اتفاقية الجلاء بين إنجلترا ومصر سنة 1954م.. بل سيبدأ فصل جنوب السودان عن شماله في عز جلجلاته الوحدوية.. ومتى؟؟ في الستينيات..

طوال الوقت كان السودان بالنسبة لقادة مصر الكبار مسألة "استراتيجية عليا" لا تقبل النقاش.. وأكبر وأصدق زعيمين عرفهما التاريخ العربي الحديث، سعد زغلول (ت: 1927م) ومصطفي النحاس (ت: 1965م) كان عندهما الموت والدفن في سابع أرض، أهون من المشاركة أو السماح بفصل مصر عن السودان، إلى أن أتى "زعيم الزعماء" الذي لن يكتفي بفصل السودان عن مصر بحجة تقرير المصير
كما نشر موقع "صدى البلد" المصري في آذار/ مارس 2018م نقلا عن ضابط مخابرات إسرائيلي يدعى دافيد بن عتسائيل أن الموساد الإسرائيلي يعمل في الصحراء السودانية منذ نهاية الستينات؛ لإقامة جيش جنوبي، وأوضح ديفيد في كتابه "مهمة للموساد إلى جنوب السودان" دور إسرائيل في قيام دولة جنوب السودان من الستينيات.. وصولاً إلى استقلالها في عام 2011م.

من الستينيات وإسرائيل تسرح وتمرح في جنوب الوادي.. ولا يعلم أحد..؟!

* * *

طوال عصور السياسة المصرية الحديثة في القرنين الماضيين كانت المسألة محسومة.. وتعبيرات القادة والساسة المصريين الكبار عن ذلك أصبحت مضرب الأمثال على كل لسان.. امتدادا للفهم الاستراتيجي العميق وذات الإصرار الذي جعل محمد على باشا يقدم أحد أبنائه (إسماعيل كامل) شهيدا في السودان.

استمرت وحدة مصر والسودان، وصان هذه الوحدة كل الساسة والقادة التاريخيين الكبار كما سبق، لكن الأمر اختلف بعد ذلك، وانفصل السودان عن مصر.. ولم يقوموا بإجراء استفتاء بين السودانيين أنفسهم كما كان مقررا. وهذه الخطوة كانت من أكثر خدع الخباثة والخسة، وبالفعل تم إعلان استقلال السودان في 19 كانون الأول/ ديسمبر 1955 ببيان قرأه نائب في البرلمان السوداني.. من هذا التاريخ تحديدا، وبخروج السودان من "بيت الوادي" أصبح في العراء التام، وعوت الذئاب التي كانت تقف على الباب.

ودخل السودان في طابور الحرب الأهلية العربية.. حيث الحاضر العربي الأليم.. الذي يتدحرج بالمنطقة كلها للسقوط في "فجوة الأندلس" الرهيبة.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (1)
أبو فهمي
الإثنين، 01-05-2023 06:38 ص
1905- 1907 كان هو وضع حجر الأساس في تقطيع البلاد العربية - كما كانوا يشيرون اليها لأنها تنطق لغة واحدة ولها اله واحد وحكمت العالم لثلاثة عشر قرنا من الصين الى الأندلس وهذا ماقرأناه وسمعناه وشاهدناه "" فلا زلنا أحياء "" لما حدث ويحدث ولا نستغرب شيء من الذي يحدث - أتكلم عن نفسي - لأن رب العالمين جل جلاله ذكر في سورة الاسراء الآية 104 أن """ وعد الآخرة """ الالهي بدأ مع أول """ لفة """ من عودة بني اسرائيل الى فلسطين وكانت عام 1908 أي بعد اجتماعات كامبل ووعد بلفور!!!!!!!!!! فكل ما حدث ويحدث هو """"" الهي """""" بحت ولا أحد يستطيع أو قادر على أن """ يغير أو يشذ """ عن الارادة الالهية ووصفنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين بـ """" غثاء السيل """" أي لا قيمة لنا!!!. كما فعل أـاتورك بالامبراطورية العثمانية فعل عبد الناصر بالسودان فقد فصلها عن مصر ونشر """ القومية العربية """ وبذور التفرقة بين الشعوب - أصبحوا شعوب وليس شعب - وأرسل الجيش المصري لحرب اليمن وما فعله بسوريا ومصر من التفرقة بين العامل والفلاح والاقطاع الذي تدفع """" الشعوب """" ثمنه الى الآن. فوعد الآخرة الالهي يسري الى أن يصل العرب والمسلمون الى """" الحضيض """" ليبدأ هلاك القرى بافسادها ومن ثم اعادتها الى تقوى الله سبحانه وتعالى.