حذر ديفيد شينكر، مدير برنامج السياسة العربية في معهد
واشنطن والمسؤول السابق بإدارة دونالد ترامب، من تواصل انهيار الاقتصاد
المصري، في ظل سياسات غير حكيمة للنظام، خلقت بيئة طاردة للاستثمارات العربية والدولية.
وعزا شينكر في مقال نشرته "
ناشونال إنترست" وترجمته "عربي21" ما تشهده مصر من أزمات إلى إهدار القاهرة الأموال للإنفاق على شراء الأسلحة وتشييد المشاريع الضخمة، مشيرا إلى أن "ما زاد الطين بلة" أن دور الجيش في الاقتصاد خلال تلك الفترة توسع بشكل هائل، ما خنق القطاع الخاص وثبط عزيمة
الاستثمار الأجنبي المباشر.
وقال شينكر إن ما يجري في مصر من تدهور ينبغي أن يُقلق واشنطن، ولفت إلى أن التقييمات المتفائلة التي سادت في البداية بشأن تعافي الاقتصاد على إثر عرض أصول للبيع، ما لبثت أن تبددت عندما تبين أن عدداً محدوداً من الأسهم في هذه المشاريع هو المعروض للتداول.
اظهار أخبار متعلقة
ولئن كانت بعض الأصول المعروضة تجذب الاهتمام، فإنه من غير المتوقع أن يتحمس المستثمرون الخليجيون للاستثمار في مصالح لا سلطان لهم عليها في مشاريع تملكها الدولة وتدار بلا شفافية، وربما تمت المبالغة في قيمتها، وفق شينكر.
وفي ما يأتي نص مقال ديفيد شينكر:
كان الاستقبال الذي نظم لغرفة التجارة الأمريكية في القاهرة في أواخر شهر فبراير/ شباط مهيباً. تدفق النبيذ في بهو المتحف المصري الكبير، وامتلأ البوفيه بالسوشي، وانطلقت من القيثارة أنغام هادئة لطيفة. ولكن على الرغم من الأجواء البهيجة، فإن الوجوم خيم على وجوه من قابلت من رجال الأعمال المصريين. لقد كان مزاج من يديرون القطاع التجاري متعكراً لأن الاقتصاد المصري في حالة سقوط حر.
وهذا الهبوط المندفع الذي نشهده اليوم بدأ قبل ما يقرب من عقد من الزمان، عندما راحت القاهرة تهدر الأموال وتقترض لتنفق على شراء الأسلحة وتشييد المشاريع الضخمة. ولقد زاد الطين بلة أن دور الجيش في الاقتصاد خلال تلك الفترة توسع بشكل هائل، ما خنق القطاع الخاص وثبط عزيمة الاستثمار الأجنبي المباشر. ينبغي أن يقلق واشنطن هذا الذي يتعرض له أكبر البلدان العربية سكاناً من تدهور مستمر.
إن المستنقع عميق، ومنذ أن انتخب الرئيس عبد الفتاح
السيسي في عام 2014، تضاعف الدين الخارجي للدولة أكثر من ثلاث مرات ليصل إلى نحو 160 مليار دولار. وهذا العام، سوف يكرس ما يقرب من 45 بالمائة من ميزانية مصر لخدمة الدين الوطني. وفي هذه الأثناء يحوم التضخم حول ما يقرب من 30 بالمئة، وزادت أسعار الأطعمة على مدى السنة الماضية بما يزيد عن 60 بالمائة.
اظهار أخبار متعلقة
لكن من المؤكد أن هذا التدهور لا يتحمل مسؤوليته السيسي وحده. فجائحة كوفيد 19 والحرب في أوكرانيا كلاهما ساهمتا في الضغط على الاقتصاد المصري، حيث تقلصت السياحة، التي تشكل 12 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفعت أسعار السلع، وخاصة القمح.
في العام الماضي أقدمت كل من المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة على ضخ ما مجموعه 22 مليار دولار على شكل استثمارات أو ودائع في البنك المركزي لتغطية العجز المتكرر في ميزانية الدولة وإضفاء حالة من الاستقرار على الوضع المالي في القاهرة. ولكن، وكما كان عليه الحال في مساعي الإنقاذ الخليجية السابقة، فقد أخفق الدعم في وضع حد للأزمة.
في مواجهة نقطة حرجة في هذه الأزمة، وقع السيسي في شهر ديسمبر/ كانون الأول على برنامج آخر مع صندوق النقد الدولي، تحصل مصر بناء على ما ورد فيه من ترتيب مشروط على 3 مليارات دولار نقداً مع إمكانية الحصول على ما يصل إلى 14 مليار دولار إضافية على شكل استثمارات وتمويلات إقليمية ودولية. في المقابل، تعهدت مصر بتعويم العملة وتقليص دور الجيش في الاقتصاد. وفعلاً، تم تعويم الجنيه الذي فقد 50 بالمائة من قيمته حتى اليوم. ولكن مازال منتظراً من السيسي الوفاء بتعهده بتقليص ما يقال إنه تحكم الجيش بما يقدر بما بين 30 و 40 بالمائة من الاقتصاد.
تشترط بلدان الخليج مقابل المال المتدفق من طرفها أن يسحب الجيش يده من الاقتصاد. وتحقيقاً لهذه الغاية نشرت الحكومة في شهر فبراير/ شباط قائمة بما يقرب من 32 شركة مملوكة للجيش من المقرر أن تعرض للبيع. إلا أن التقييمات المتفائلة التي سادت في البداية ما لبثت أن تبددت عندما تبين أن عدداً محدوداً من الأسهم في هذه المشاريع هو المعروض للتداول. ولئن كانت بعض الأصول المعروضة تجذب الاهتمام، إلا أنه من غير المتوقع أن يتحمس المستثمرون الخليجيون للاستثمار في مصالح لا سلطان لهم عليها في مشاريع تملكها الدولة وتدار بلا شفافية، وربما تمت المبالغة في قيمتها.
اظهار أخبار متعلقة
ومثله مثل دول الخليج، تساور صندوق النقد الدولي شكوك حول التزام السيسي بما تعهد به من تقليص دور الجيش في الاقتصاد. كان قد حُدد الخامس عشر من مارس/ آذار موعداً للمراجعة الأولى للبرنامج الممتد على مدى أربع سنين، إلا أن صندوق النقد الدولي أجل التقييم، وتوزيع شرائح القرض، إلى أن حين تحقيق القاهرة تقدماً في مشروع الخصخصة.
يمكن تفهم تحفظ السيسي على القيام بهذا الإجراء. فهو ضابط سابق في الجيش، ونظامه يعتمد بكثافة على دعم العسكر. إلا أن أمام السيسي خيارات ضئيلة. ففي يناير/ كانون الثاني، أوضحت المملكة العربية السعودية – ملاذ القاهرة الأخير في التمويل – بأن أيام المنح غير المشروطة والودائع التي تودع في البنك المصري المركزي بدون قيد أو شرط قد ولت. فمن الآن فصاعداً سوف يتدفق المال الخليجي على مصر فقط إذا تم التيقن من أن الاستثمارات ستعود عليهم بإيرادات.
مصر مدينة الآن لصندوق النقد الدولي بما مجموعه 23 مليار دولار، وليس واضحاً بعد ما إذا كانت الدولة ستتمكن في نهاية المطاف من الوفاء بالتزاماتها التي تعهدت بها للصندوق. على كل حال، لا يوجد الكثير مما يشير إلى أن القاهرة غيرت أسلوبها في الإنفاق. ففي فبراير/ شباط، أصدرت مصر ما قيمته 1.5 مليار دولار من الصكوك، وهي سندات تجني فوائد معدلها 11 بالمائة.
والغاية من هذه الصكوك هي تمكين الدولة من سداد ديونها على السندات الأوروبية، التي يبلغ معدل فائدتها 5.57 بالمائة فقط. بمعنى آخر، أنه حتى حينما تقترض مصر من صندوق النقد الدولي فإنها تحمل نفسها المزيد من الدين، إذ تقترض المزيد من المال بمعدلات فائدة أعلى حتى تتمكن من سداد ما عليها من التزامات مستحقة.
في هذه الأثناء يعاني المصريون العاديون بسبب الارتفاع الهائل في الأسعار، بل صار ما يقرب من ثلث السكان يعيشون دون خط الفقر، حيث يقل دخل الفرد منهم عن 3.8 دولار في اليوم، الأمر الذي يزيد من صعوبة المعيشة. وقد تضررت بفعل هذه الأوضاع الطبقة الوسطى، فمنذ أن استولى السيسي على السلطة، فقد الجنيه المصري ما يقرب من 80 بالمائة من قيمته – منها 50 بالمائة فقط خلال العام الماضي – بما يعني فعلياً أن كثيراً من المصريين فقدوا مدخرات قضوا حياتهم في تجميعها.
وغدت الأطعمة الأساسية، مثل الخبز والأرز واللحم، كلها أعلى تكلفة، وأفضى الضغط على احتياطي العملة الصعبة إلى ارتفاع حاد في أسعار الأدوية، بل وندرة بعضها. ويُحكى أن أثرياء مصر يقومون في هذه الأثناء بالانتقال للعيش في تجمعات مغلقة في ضواحي نائية خارج مدينة القاهرة.
اظهار أخبار متعلقة
قد يلين السيسي أخيراً ويتبنى إصلاحات صندوق النقد الدولي ويوقف مسار التدهور الذي تندفع فيه مصر حالياً. ولكن في غياب ما يشير إلى وجود أي تصحيح للمسار سوف يكون من الصعب تصور أن يطرأ تبدل في الوضع نحو الأفضل. وفيما لو استمرت الأزمة، قد تبدو التجربة المرة لثورة 2011 لطيفة مقارنة بما سوف تشهده البلاد من احتجاجات عارمة. ولربما تفاقمت الأمور وازدادت سوءاً، بحيث تشهد مصر احتجاجات عفوية وتلقائية، وارتفاعاً في معدلات الجريمة، ومزيداً من هرب رؤوس الأموال، وزيادة في الإجراءات القمعية. وكما هو الحال في تونس ولبنان، قد يسعى المصريون إلى الهجرة، سواء بشكل شرعي أو غير شرعي، عبر القوارب إلى أوروبا.
يبدو أن إدارة بايدن تدرك أن مصر لديها مشكلة، وإن لم تعتبرها مهمة جداً. ففي مؤتمر صحفي مشترك عقد في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وصف وزير الخارجية أنطوني بلينكن مصاعب مصر الاقتصادية بأنها "تحدي"، مقارنة بما قاله نظيره المصري الذي وصف الوضع بأنه "أزمة".
في هذه الأثناء، تعزو واشنطن الأزمة المالية الخانقة في مصر إلى "موقف لا تحسد عليه" ناجم عن جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا – أي إلى عوامل خارجية وليس إلى عوامل داخلية تتمثل في السياسات الاقتصادية غير الحكيمة التي يتم انتهاجها في مصر. بعد مرور أكثر من شهر على قرار صندوق النقد الدولي تأجيل مراجعة البرنامج، مازال ينتظر من واشنطن التعليق على تردد مصر في اتخاذ ما يلزم من إجراءات للوفاء بما تعهدت به من التزامات تجاه صندوق النقد الدولي.
بتعداد سكاني يكاد يصل إلى 110 ملايين نسمة، وُصفت مصر بأنها "أكبر من أن تفشل". إلا أنها مع استمرار تحفظها على إخراج الجيش من الاقتصاد، وبدون ضمان بقاء شبكة الأمان المالي التي طالما وفرها لها أهل الخليج، فمن الممكن جداً أن تشهد مصر مزيداً من التدهور. بينما لاتزال واشنطن في منأى عن أن يتملكها القلق إزاء التطورات في مصر، من الواضح أن مثل هذا القلق بدأ يساور المصريين أنفسهم. ورغم ما يشتهر به النظام من قسوة في التعامل مع معارضيه، لمست في زيارة قمت بها مؤخراً إلى مصر أن أعداداً متزايدة من المصريين الذين قابلتهم عبروا عن شوق مفاجئ لتلك الأيام الجميلة التي عاشوها في عهد الرئيس السابق حسني مبارك.
* دافيد شينكر زميل كبير في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومساعد سابق لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى في عهد إدارة الرئيس ترامب.