* يشيع كلامٌ إنشائيٌّ كثير تجاه ما يحدث في
السودان. لا بأس في ذلك، فأمام
حدث دموي كهذا يغدو كل الكلام شكلا من الخطابة بمعنىً ما. ولعل أُميّاً واحدا يمسك
رشّاشا في أحد شوارع الخرطوم يملك الآن دوراً أهم بكثير من كل محللي السودان
والعالم العربي مجتمعين. كانت فريةً سخيفة تلك التي لقّنوها لنا في المدارس، عن
القلم الذي هو أقوى من السيف، رغم هذا، فليس كل الكلام سواء، وبعضه يزيد من ضبابية
الحدث ويعزز الأوهام ولا يزيد الواقع القائم إلا تأسُّناً.
* أسوأ
المقولات وأشدها إيهاماً بغير شك: "لا حل إلا بالحوار". في الحدّ
الأدنى، هذه عبارة غريبة، ولولا الدم الذي يطبع المشهد، لكان من المناسب وصفُها
بالطرافة أيضا. ما هو هذا الذي يجري في السودان إن لم يكن إعلانا صاخبا عن فشل
الحوار ووصوله لنهايته المسدودة؟ وما هو هذا القتال الدائر إن لم يكن سعياً لحلِّ
ما فشل الحوار بحله، أو محاولةً لتغيير ميزان القوى على نحو يُعيد الحوار مجديا؟
عندما يصل عسكريان إلى رأس الدولة وسط عاصفة من الفوضى وهما خاليان من أي بنيةٍ عقائدية أو نزوعٍ فكريٍّ نظري، ومتحرران من أي تقليدٍ مؤسسي راسخ، فماذا يبقى غير الأنا العسكرية المتورمة والسباق لاقتناص الجائزة؟
* في الإصرار
على الحوار وتصويره سبيلا للخلاص، هناك تغافلٌ هائل عن طبيعة المتحاورين. أي أفقٍ
لحوار كهذا؟ وما هو موضوعه؟ يجري الكلام وكأن الخلاف نابعٌ من رؤيتين مختلفتين في الفلسفة
الاقتصادية للبلاد، أو تباينٍ بين رَجُلي دولةٍ حول مادة مرهفة في الدستور، أو تقييم
الخطر الوجودي لسدّ إثيوبيا. عندما يصل عسكريان إلى رأس الدولة وسط عاصفة من
الفوضى وهما خاليان من أي بنيةٍ عقائدية أو نزوعٍ فكريٍّ نظري، ومتحرران من أي
تقليدٍ مؤسسي راسخ، فماذا يبقى غير الأنا العسكرية المتورمة والسباق لاقتناص
الجائزة؟
* لقد
أتعَبَنا سوارُ الذهب، وأتعبناه معنا، ونحن نستحضره مثالا وأعجوبة. لكنه –حتى بعد
رحيله- موضعُ ارتكازٍ لازم في التمييز بين نوعين مختلفين جداً من رجال الجيش. إن
تصوير الاحتراف العسكري بوصفه انقطاعا عن أي شيء من خارج مضمار السلاح والقتال هو
فريةٌ كبرى، ومهما بدا الأمر خفيا أو مضمرا، فهناك حاملٌ قيمي، وهيكل من الأفكار،
وراء شخصيات من معدن سوار الذهب. هذا الحامل تحديدا وذاك الهيكل، هو ما يَغيب حتماً
في رأسَي النزاع السوداني اليوم. ولأجل هذا كله، ومرةً أخرى، فأي أفقٍ لحوار كهذا
غير وقفٍ مؤقتٍ للقتال، أو قسمة للغنيمة المدعوة بالدولة.
* من المفيد
أن يتذكر المرء كثيرا من المبررات التي سيقت عن التقارب السياسي بين عساكر الخرطوم
وإسرائيل، خصوصا في الشق الاقتصادي، وربط ذلك بالحاجة لرفع العقوبات وإنعاش
البلاد. فجأة، يظهر أن أولئك الذين سعوا لهذا التقارب مع تل أبيب يجدون هامشا
اقتصاديا وافيا كي يخوضوا حربا طاحنة في وسط العاصمة ويتبادلوا القصف على كل جبهة
ممكنة، ويأخذوا البلد صوب أخطر تهديد وجودي في تاريخها المعاصر. هل كان الدافع حقاً
ما قيل وقتها في الانفتاح على إسرائيل؟ أم أن الأمر مسألة مختلفة تماما تخص سباقا
داخليا على النفوذ؟
تصوير التحول الديمقراطي ترياقا لأزمة العالم العربي بات جزءاً من الأزمة نفسها وانحباساً خانقا في الخيال، وصار الأمر برمّته من فئة الأفكار الخلاصية التي يؤمن بها أنصارها إيمانا غيبيا، ويبررون كل فشل لها -مهما تكرر- بخطأ في التطبيق، لا عطبٍ في النظرية.
* يستاء كثيرون
من ربط الأحداث الداخلية للعالم العربي بإسرائيل بوصفه خطابا خشبيا وإغراقا في فكر
المؤامرة، لكن المشهد اليوم لا يحمل شبهة الخشب ولا شبهة المؤامرات، وإسرائيل
تتحدث عن نفوذها على المتقاتلين، علنا وبالصوت الجهوري. بل ويجد بعض المتقاتلين
وقتا وسط القصف ورش الرصاص كي يمتدح مكانتها ويُشبّه خصمه بحماس. لقد طويت صفحة
التطبيع وبتنا اليوم فيما بعد التطبيع بأشواط. لا يبدو أن أحداً صكّ مصطلحا لهذه
المرحلة بعد، رغم أنها جديرة بالتسمية لأنها فريدة نوعها.
* ينضم
السودان اليوم لطابورِ أمثلةٍ طويل في العالم العربي؛ أمثلةٍ تشهد للزيف الكبير
الذي كانت المقولة
الديمقراطية تدور فيه. تدريجيا، انجلى "سبيل الخلاص
الديمقراطي" عن درب مغلقٍ لا يتحقق إلا على الورق وداخل قاعات الندوات ولا
يُفضي، حتى عندما يجد موطئ قدم، عن شيءٍ وازنٍ مما كان يعد به. إن تصوير التحول
الديمقراطي ترياقا لأزمة العالم العربي بات جزءاً من الأزمة نفسها وانحباساً خانقا
في الخيال، وصار الأمر برمّته من فئة الأفكار الخلاصية التي يؤمن بها أنصارها
إيمانا غيبيا، ويبررون كل فشل لها -مهما تكرر- بخطأ في التطبيق، لا عطبٍ في
النظرية.